الحجاب: هل هو فريضة دينيّة في الإسلام أم بدعة سياسيّة؟!

  • article

فاطمة بعلبكي - مونتريال

 يشغل موضوع الحجاب الرأي العام الكيبيكي مؤخراً في ظل السّجال المحتدم بين الجماعات المتدينّة والأقليّات من جهة وبين العلمانيين  من جهة أخرى حول القانون 21 الذّي فرضته الحكومة الكيبيكيّة، وحظرت بموجبه إرتداء الرموز الدينيّة في الوظائف العامّة والرّسميّة. ويتم التّرويج مؤخراً لفكرة عدم إلزاميّة الحجاب في الدّين الإسلامي في الأوساط الكيبيكيّة، بل اعتباره بدعة سياسيّة وموروث ثقافي فقط في المجتمعات الإسلاميّة، الأمر الذّي _ إن ثبت صحّته_ يصبّ في مصلحة القانون 21...

هذه المسألة الجدليّة يطرحها د. سامي عون - وهوأستاذ بكلية السياسة التطبيقية بجامعة شيربروك (ÉPA)، ومركز الدراسات الدينيّة المعاصرة ((CERC ومركز المجتمع والقانون والأديان (SODRUS)، وهو أيضاَ مؤسّس مشارك ومدير اللجنة العلمية كرسي اليونسكو في مكافحة  التطرف والتطرف العنيف، ومدير مرصد الشرق الأوسط وشمال إفريقيا في جامعة كيبيك- في كتابه الجديد ( لا يزال قيد الإعداد) ويناقش مسألة الحجاب في الإسلام من خلال جمع المعلومات والبيانات ورصد الكتب والأبحاث والفتاوى الإسلاميّة المعاصرة...

إشكاليّة التديّن في المجتمعات الغربيّة...

يهتم د. عون في كتبه وإصداراته - ومنها كتابيه "المسلمون في كندا وتحديات التعايش" الذّي صدرعام  2019 و"الانقطاع الليبرالي: نهاية اليوتوبيا في الإسلام"  الصادرعام 2016 -بالدّراسات حول العلاقة الجدليّة بين الدين والثقافة والسياسة ، ويعالج في كتابه الجديد "الظاهرة المعاصرة للتديّن" فرضيّات عدّة، ويبيّن ما تحمله الدراسات الإنسانيّة من "علوم إجتماع وسياسة وأنتروبولوجيا تُعنى بظاهرة الدين في المجتمعات الغربية الديمقراطيّة التّي تأسّست على مفهوم الحداثة، سواء السياسية، أم الفكريّة أم الإجتماعية من جهة، ويرصد كيفية تفاعل الأيديولوجيات الدينية ومظاهر هذا التفاعل في المجتمعات الغربية الديمقراطية من جهة أخرى، ويتناول كيبيك وكندا كنموذج للبحث". ويلفت د. عون الى أنّ  المجتمعات  الغربيّة تتعاطى مع المظاهر والممارسات الدينية باعتبارها ظواهر ثقافية من دون التشكيك بقدسية الدين، وتحترم حق تعدّد الأديان وحريّة الأفراد في اختيار دينهم وممارساتهم، "ولكن من دون أن يؤثّر هذا التديّن على العلاقات الإنسانية بين النّاس داخل مجتمع يفترض ان يكون بين مواطنين وليس متدينين، وفي دولة غير دينية أو كهنوتيّة بل مدنيّة، الأمر الذّي يطرح إشكاليّة مهمّة، ألا وهي: كيف يعيش المؤمن من كل الأديان داخل هذا الإطار الحداثي الديمقراطي الليبرالي ويبحث عن هويته ومحدودية إعادة انتاج تراثه وأعرافه ؟ وعلى مستوى موازِ يتم درس النموذج العلماني كإطار للسلم الأهلي وإحباط المنازعات الدينيّة"، بحسب د. عون.

تهافت الحجاب كفريضة!

يرصد د. عون الحوادث المسجلّة داخل الجماعات المسلمة وغير المسلمة في طرح قضية الحجاب، ويلاحظ تباين الآراء داخل الدين الواحد حول هذ المسألة، ويشير الى أنّه بالرغم من "أنّ النص القرآني واحد، ولكنّ آياته قابلة للتفسير والتأويل، فالقرآن حمّال أوجه وخاضع في فهمه وتفسيره  لنسبيّة الزمان والمكان كما روى الشّافعي". ويرى عون أنّ هذا هو لبّ المشكلة وأصل السجالات بين المفسّرين، حيث تتعدد الإشكاليّات المطروحة حول الحجاب بين المرجعيات الدينيّه: فهل الحجاب فريضة إسلامية أم بدعة سياسية؟ هل هو واجب أم خيار؟ هل هو عادة أم عبادة؟"... ويضيف د. عون " تحدّث القرآن بصيغة المخاطب (أي مع النبي) في الآيات التّي تتعلّق بالحجاب، كما أن فكرة الحرّة والأمة (العبدة) موجودة في  الإسلام، لكن لم يحدد القرآن من يوجب عليها الحجاب منهما، هل الحرة أم غير الحرة؟  إشكالية أخرى يطرحها د. عون: هل المرأة عورة كي نغطيها؟! ".

كما يؤكد د. عون التباين الواضح في آراء المفسرين والمجتهدين والمراجع الدينية والخلافات المذهبيّة حول الإشكاليات المطروحة، "هناك توجّه وميل أكثر للتعاطي مع الحجاب على أنّه  غير فريضة اسلامية لدى الطائفة السنيّة، فهناك العديد من المراجع الدينيّة في الأزهر التي لا تعتبر الحجاب تكليفاً شرعياً واضحاً وإلزاميّاَ، في المقابل هناك إجماع شبه كلّي بين المراجع الدينيّة في الطائفة الشيعية على اعتبار الحجاب فريضة في الإسلام كغيرها من الفرائض، وان اختلفوا في تحديد مظاهر هذا الحجاب بين الشادور الإيراني أو اللباس الفضفاض أو الحجاب التقليدي الشائع، وطبعاً هناك بعض الإستثناءات. ولكن الحجاب ليس دليلا على تديّن المرء بالضرورة كما يوضح آية الله كمال الحيدري، ويعالج الشيخ محمد مهدي شمس الدين هذه المسألة في كتاب (الستر والنظر)".

ويخلص د. عون الى أنّ الخلاف بين المسلمين على الحجاب بين التعليمات والأحكام، ويقول: "للأسف معظم مرجعيات الفتوى الموجودة في العالم الإسلامي لديها نظرة قديمة عن الحداثة ونظرة دونيّة للمرأة- باعتبارها تابعة للرجل- ولم يوجد الى الآن نموذج إسلامي أثبت أنه قادر على التعاطي مع مفهوم الحداثة وقيمها الديمقراطية. لذا، يجب أن تتم مصالحة الحداثة مع الإسلام والعكس عن طريق إسقاط العديد من الأحاديث النبوية غير المسندة والتأكد من موثقتيها وإعطاء الأولوية للنص القرآني وتفسيره بدقة وعناية". وختم حديثه حول هذه المسألة " نحن بحاجة كمتدينين (مسلمين او مسيحيين أو يهود) أن تصدر الأحكام الدينيّة في المجتمعات الغربية الليبرالية بحسب الحاجة العميقة للمؤمنين وليس من خارج الإطار الثقافي والديمقراطي، لأنّ العديد من القراءات والممارسات الدينيّة المعتمدة لا تعبّر عن روحانيّة الدين!".

 كيف تخدم فرضية التهافت القانون 21؟

يشير د. عون الى الثغرات العديدة في التّصدي للقانون 21 "فأهداف الديمقراطية والعلمانية هي تأمين أولوية الحريّة (الوجدان والضمير) والمساواة والألفة بين المواطنين، ويكمن جوهر التّخوف من رفض تطبيق مقرّرات هذا القانون المدعوم من أغلبية شعبية وحزبية ومن صنّاع القرار في كيبيك هو الخوف من إعلاء الهوية (الدينية) على الهوية (المواطنية)، وأن تصبح مجموعة ما منعزلة عن السياق الاجتماعي العام على غرار ما يحصل في فرنسا، فتصبح هذه الجماعة (المتميّزة جداَ) برموزها الدينيّة تروّج لفكرة أن الفتوى أهم من القانون"، هذا هو جوهر التخوّف من رفض القانون 21، وفق عون، معتبراَ أن توضيح هذه النقطة لم يأخذ حقّه في النقاش العام، "إذا تمكّن المسلمون من إثبات أن الحجاب هو فريضة إسلامية إلزامية وانه ليس راية ايدلوجية  اسلاموية لتبخيس العلمانية، وأنّ عدم الإلتزام به يخلق مشكلة في (الضمير الديني) La Liberté de Conscience فعلى الدولة أن تحترم هذه العبادة وأن تسمح بالحجاب في جميع المجالات، إنطلاقاً من المساواة في القانون في الأنظمة الديمقراطية الليبرالية

الإسلام يحسم الجدل: تهافت التهافت!

عقب ما تقدّم طرحه وتداوله، كان لا بدّ لنا من سؤال أهل الإختصاص حول رأي الدين الإسلامي بمسألة الحجاب ووجوبها على المرأة  المسلمة كفريضة دينيّة، ولهذه الغاية تواصلنا مع مرشد مؤسسة الإمام الحسين(ع) والمشرف على الحوزة الدينية في ويندزور ووكيل المرجعية العليا في كندا الشيخ عبد المنعم شرارة، الذي استهلّ حديثه: "من المهم ان يُعلم ان المسلم المكلف، حتى يصل الى معرفه حكمه الديني في اي مسألة من المسائل، فإما ان يكون مختصاً باستخراج الاحكام من ادلتها الشرعية (وأساسها القران والسنة والإجماع والعقل). و لا يخفى أن المختص بهذا المعنى، هو المجتهد المعترَف باجتهاده. وليس هو كل من تلبس بلباس رجل الدين".

ولفت شرارة الى أنّ المجتهد "يعمل بالدليل لا باستحسانه ولا بنظريات لا برهان عليها"، وأما ان لا يكون المكلف من اهل الاختصاص، فهنا تقسم الاحكام بالنسبة اليه الى قسمين: الأوّل، ضروريات الدين: وهي ما يعرفها  كل مسلم وانها من الدين كأصل الفرائض، كالصلاة والصوم الخ... فهذه يلزمه العمل بها على كل حال. والثاني،غير الضروريات: فلا بد له من الرجوع الى المختص، اي المجتهد الاعلم فيها، "فليس لرجل الدين ان يحكم بشأن طبي او هندسي الخ.. كما ليس للطبيب والمهندس وغيرهما من المثقفين من غير اهل الاختصاص ان يحكموا بالشأن الديني".

ويجزم شرارة أنّ الستر الشرعي للمرأة - وهو ما يسمى "بالحجاب" – فإن أمره محسوم شرعاً لعدة اعتبارات:

-   أن اصل وجوبه من ضروريات الدين حيث لم يعُهد أن احداً من متشرعة الامة، لا يعرف بهذا الحكم. ولا يُعتنى بمن قد يبرز في هذا الزمان ممن تستهويهم بعض الشعارات الرنانة الخالية من العمق العلمي كالحداثوية والعصرنة والحرية والتي تحتمل وجوها وتستغل لتحقيق مآرب في النفوس او تخدم أغراض جهات مختلفة.

- دلالة القرآن على الالزام به  بآيات دلت على ذلك من خلال الامر بالستر تارةً كقوله تعالى:

( يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لِّأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن جَلَابِيبِهِنَّ... وكما هو واضح هنا أمر من الله للنبي بان يأمر بالستر. وأمره يشمل كل نساء المؤمنين، وبحثه الفقهي في محله وبين اهله من العلماء. وكذلك قوله تعالى: وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَىٰ جُيُوبِهِنَّ والخطاب موجه لجميع المؤمنات) وطورا، بالنهي الدال على التحريم عن التكشف والسفور كقوله تعالى: (وَقُل لِّلْمُؤْمِنَاتِ.... وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا .... وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ...)، حيث حصر جواز الابداء بالاصناف المذكورة في الآية وهم الزوج والارحام. وفي هذه المقاطع من الآيات دلالة واضحة لمن عنده معرفة باللغة.

- دلالة السنّة الشريفة عليه باحاديث كثيرة عند الفريقين.

- تحقّق السيرة القطعية عند المسلمين عليه.

- الإجماع على اصل وجوبه، وإن وقع خلاف ففي بعض التفاصيل كستر الوجه والكفين وحدود الوجه وهذا لا يضر بالاجماع على الاصل.

أمّا عن اعتبار الحجاب موروث ثقافي وصحّة المسألة، يجيب شرارة: "صحيح انه موروث ثقافي ولكن اساسه الدين، والدين كما هو معلوم من اُسِّ الثقافة. ولكن ليس له غايات سياسية بل غايات اصلاحية وحماية المجتمع، وكيف يكون له غايات سياسية ولم يكن هناك صدام سياسي تاريخي من هذه الجهة؟ خصوصاُ أن اتباع ديانات اخرى كاليهود والكثير من المسيحيين كان عندهم حجاب كهذا او اقل او اشد ولا زال حتى الان عند فئات عديدة منهم".

ويشرح شرارة حكم الإختلاف في تفسير وتأويل الآيات القرآنية، "المحكم من الآيات لا يمكن ان يحصل فيه خلاف الا لقصور عند المفسر او لغايات غير سليمة. وأما المتشابه من الآيات، فالمشكلة ان بعض من يفسره لم يعمل بما امر الله به في القران في اكثر من مقام بالرجوع الى (الراسخين في العلم) و(أهل الذكر) اي اهل البيت عليهم السلام".

وفي إجابته حول مسألة طواعية القرآن الكريم وخضوعه لنسبية الزمان والمكان علّق شرارة: "حلال محمد حلال الى يوم القيامة وحرامه حرام الى يوم القيامة. فإذا ثبت حكم شرعي ما، فانه لا يتغير الا من قبل الله، او ممن عينهم الله. وذلك بان ينسخه الله ولا احد غير المعصومين ينقل عن الله. وبالتالي، ليس لاحد غيرهم تغيير اي حكم شرعي، لانه لا يكون في هذه الحالة حكم الله بل حكم الشخص الذي غيّره".  واستدرك شرارة بالقول: "نعم في مساحة (الفراغ التشريعي)، ترك الله لنا اسسا وقواعد لها ادلتها لتشخيص التكليف فيها. في مقام العمل بها يطلعنا عليها المجتهدون من خلال الفتوى. بالإضافة إلى ان ما نتكلم عنه هو الحكم الشرعي الاولي واحيانا يكون هناك حكم ثانوي يعتبر حكم الضرورة وفيه تحصل بعض الاستثناءات من قبيل اكل الميتة لحفظ النفس، او شرب الخمر للتداوي ان لم يجد دواءً سواه، والزنا لدفع القتل وهكذا، ففيه لا يتغير  الحكم الشرعي الاصلي، بل فلنقل يتوجه حكم شرعي اخر خاص بالواقعة يبيح له بخصوص الموقف مخالفة الحكم الأول وبالتالي تجري قاعدة الضرورات تبيح المحضورات، وليست مسألة الحجاب من هذا القبيل".

لا بدّ من التنويه في ختام هذا التحقيق الجدلي -الذي حمل فرضيات قد تكون صادمة ومرفوضة للبعض ومقبولة ومنطقية للبعض الآخر- أنّ قضيّة الحجاب لا يجب ان تكون راية لنشطاء سياسيين يرفعون لواءها في أروقة المحاكم لغايات سياسية ومدنيّة بحتة، وإنما التعاطي معها بعمق ديني ووجداني، والإجماع حول اعتبارها فريضة مقدّسة ومسألة الإلتزام بها حريّة شخصيّة وقناعة فرديّة كفلها الدستور الكندي، وبالتّالي لا تتعارض مع قيم الحداثة في المجتمعات الغربية بأيّ شكل من الأشكال.

ملاحظة: ترقبوا في العدد المقبل المزيد من الآراء حول الفرضيات الجدلية المطروحة.