حزب الانسان

  • article

طلال طه ـ مونتريال

من الظواهر الكبيرة، الواضحة، المفاجئة، الذي تولدت عن الحراك البشري العالمي، في مختلف القارات، والذي طال مستويات عمرية مختلفة، وخلفيات فكرية وثقافية متعددة، وهويات دينية وعقائدية متقاطعة ومتناقضة ربما، ومستويات وطبقات اجتماعية متباينة نزلت الى الشوارع في مختلف وكبريات عواصم ومدن العالم.. لعلها من المظاهر المفاجئة التي تستحق التوقف والمراقبة والدراسة واستخلاص العبر ولحاظ إمكانية الاستفادة من هذا المد البشري الإنساني الذي تعاطف مع قضية غزة.. وفلسطين مجددا!

هو اتفاق غير معلن، وتوترات ومشاعر إنسانية فياضة، وتقاطع واسقاطات قيم ومبادئ وحزم أخلاقية ومبادئ سماوية مهملة كانت البشرية قد نستها أو تناستها في خضم السعي وراء المادة والاضواء وغريزة اللحظة واستباحة الأسس الأولى لهوية المجتمعات السوية!

كان غياب الأيديولوجيا والعقائد والفلسفات الشمولية قد أفسح المجال لمجموعة هجينة من الفلسفات - السقط (فلسفات غير مكتملة النمو)، فلسفات بدون مرجعيات واضحة، أغلبها يعود لغرف سوداء، وبعضها لحركات سرية غامضة، تتموضع خلف كليشيهات دينية وسياسية واجتماعية وثقافية وفنية تخاطب الغرائز والشهوات وأدنى ما في هذا الانسان من قيمة!

نزول الناس الى الشارع كان فيه إشارة الى رفض هذه النظريات الجديدة، ورفض الأحزاب والدول التي تشكلت خلال القرن الأخير على أساس من مبادئها، والتي استغلت بعض الشعارات مثل (الديموقراطية، الحريات، حقوق الانسان) كواجهات حق يراد بها كل باطل!

انطلاقا من هذا التشويه، ورفضا لكل نتائجه المخيبة، واحتفاءا بسقوط الأيديولوجيات الهرمة والخربة، نزل الناس الى الشارع، وتحرك فيهم الانسان!

 اجتمع الناس على اختلاف في كل شيء، ناس الكوكب من كل الأطياف، ليتفقوا على أمر جلل ويشكلوا حزبا أمميا جديدا: حزب الانسان!

لن يكون لهذا الحزب أمانة عامة ولا ناطق سياسي رسمي باسمه، ولن يكون له لجان تنفيذية، ولا بيان أول للحزب، ولا نشرة داخلية للأعضاء، فضلا عن جريدة أو مجلة أسبوعية..

كل ما نعرفه عن هذا الحزب أنه ولد من غير أب، أمه غزة، "فحملته فانتبذت به مكانا قصيا، فأجاءها المخاض الى جذع النخلة"..

ثم تناسل الحزب فروعا في كل المدن الكبيرة وعواصم العالم الشهيرة، وتحول ليصبح أكبر حزب في العالم، فلنسمه مرة أخرى "حزب الانسان"!

حين تراجعت الأيديولوجيا، وسقطت المشاريع الكبيرة، وأخفقت الفلسفات الوضعية في وضع العالم وبشره في سياق تاريخي صحيح.. جاءت غزة، على استحياء، مدينة فقيرة من عشوائيات توزعت ونبتت في الصحراء، تناسل الناس هناك وألفوا عائلات كبيرة، خلايا من هموم ووجع وشظف عيش وحصار.. ثم حصار، ثم حائط وحروب فحصار!

.. في تلك الليلة، كانت الأرض تدور كعادتها حول نفسها، ثم حول الشمس، ثم كانت الساعة الخامسة من صباح السبت، في السابع من أكتوبر لهذا العام، وكان أغلب الناس نيام، ومن استيقظ من ناس هذا الكوكب كان قد فقد احساسه بأطرافه، وشعر بشلل جزئي يسيطر على.. مذاق قهوته، ومال الى البقاء في السرير ينتظر نبوءة تحدث عنها حلم سريع مر عبر شاشة جامعة سرعان ما تناقلتها وسائل الاعلام: بعد خمس ساعات من هجوم مفاجئ، فازت غزة بالضربة القاضية، ثم بدأ اللعب عبر شاشة واسعة غطت أطراف الكوكب، على مدار الساعة.. وشعر "الانسان" بالرعب مما يجري!

تحولت الكرة الأرضية الى ساحة مفتوحة على الحرب، 24/7 متواصلة، غطى الغبار شاشات التلفزة، ونفذت رائحة البارود الى غرف الجلوس، الى المقاهي والأندية والأسواق، تسللت رائحة الدم تزكم الأنوف، خافت النساء على أطفالها، فانتبذت بهم الغرف الخلفية، أطفأت الأضواء تضامنا مع غزة، تساقط الأطفال شهداء، وتساقطت الدموع في مآقي مئات الملايين من الناس، كانت المرة الأولى التي يدخل فيها رعب بهذه الحقيقة السافرة الى كل البيوت، كان الرعب شريطا سينمائيا، أو رواية، أو قصة قصيرة.. ثم تحول في غزة الى حقيقة من لحم ودم، وعمارات تنحني سجودا فوق رؤوس ساكنيها، وتسقط المدارس بعد الحصة الثانية من درس اللغة العربية، وتضيق المستشفيات بالجروح والأوصال المقطعة.. وتعلن البشرية أن لعنة اصابت هذا الكوكب، وتداعت للخروج الى الشارع، لتتحسس أعضاءها وقدرتها على الحركة والسير، خرجت لتجرب أصواتها وقدرتها على الصراخ، خرجت لتبكي في الشوارع، حتى لا ينكشف ضعفها وهزالها في الغرف المغلقة، خرج الناس فرادى، ثم جماعات، ثم كتلا، ثم آلاف، اختنقت بهم الشوارع، ناس من كل الأعمار، والألوان والأجناس والهويات المختلفة والثقافات واللغات المتنوعة، ساروا جنبا الى جنب، يحملون شعاراتهم وهمومهم ونكاتهم وأعلام فلسطين، يحزمون رؤوسهم بكوفية لطالما كانت مجهولة الأداء والوظيفة.. ثم أصبحت شعارا وهوية وعنوان!

طلاب وأكاديميون، فنانون وكتاب وصحافيون، صعاليك وثوريون ومهمشون، دراويش طريقة وثوار أمميون، هنود حمر وملونون، فسيفساء من ناس هذه المدن لم يجتمعوا على قضية كما وحدتهم غزة، جاءت بهم من جامعاتهم ومكاتبهم ومقاهيهم وغرفهم الضيقة وأحلامهم المتعبة ويأسهم من الفلسفات التي وضعتهم على غير طريق!

في كل المدن الكبيرة حول العالم، خرج مئات الآلاف الى الشوارع، من لم يخرج بكى بصمت، الذين خرجوا أعلنوا انتماءهم لهذا الحزب الجديد: "حزب الانسان"!

لا بد أن هذا الكائن، من بين مخلوقات عديدة، لا يزال يحتمل في تركيبته الجينية شيئا جميلا يفيض عنه أحيانا، لعل تلك القلوب التي لم تختبر سابقا بالمأساة حركها الوجع الكبير، ألم بحجم طفل لا يزيد وزنه عن عدة كيلوات من اللحم الحي، رجال يرفعون فلذات أكبادهم فوق صليب الوجع، كأن طفل المغارة يراد له أن يصلب صغيرا على خشبة نصبت في غزة.. وكأن التاريخ يصلب المسيح على عتبات الميلاد الذي سيدخل الى بيت لحم باكيا هذا العام!

.. واستمرت المأساة لأكثر من سبعة وأربعين يوما، وسكان الكوكب يتابعون المشهد حلقة حلقة، عجزهم أطلق العنان لعواطفهم المكبوتة، بدأت تتمظهر عبر وسائل عدة، الخروج الى الشاعر أقلها كلفة ومؤونة، البحث عن جذور القضية كانت كلفتها أكبر، عشرات الآلاف من "الانسان" لا يعرفون فلسطين على الخريطة، لا بد أن يبدأوا من الصفر، فلسطين في الجغرافيا، ثم في التاريخ، ثم في الأديان، ثم في السياسة، ثم في الاجتماع، ثم في الناس، ثم الناس.. ثم ناس لا يزالون يحتفظون بذاكرة نشطة، ووجع قديم عمره أكثر من 75 سنة!

الأكثر جرأة راحوا يجلدون أنفسهم، خصوصا اليهود منهم، اعتبروا أنفسهم أنهم كانوا مخدوعين ومغرر بهم، وأن هناك من تاجر بهم وبدينهم وعقيدتهم، هؤلاء كانوا الأكثر انتشارا حين خرجوا الى العلن، عبر مختلف وسائل التواصل، ليعلنوا براءتهم مما يجري، وينحازون الى غزة، وفلسطين، الى الضحية المظلومة.. وكانت غزة كبيرة بأدائها الذي لاقى تجاوبا من جمهور عريض حول العالم ليتشكل "حزب الانسان" من كل هؤلاء الذين لا تزال فطرتهم سليمة، ولا يزال شيئا في مكان دافئ ينبض بدم حار ومشاعر رقيقة وحية!

حزب الانسان.. لا بد من برنامج عمل، لا يكتبه أمين سر أو ناطق رسمي أو لجنة متابعة، بل قراءة جادة وعميقة وهادفة ومستدامة فيما بعد حرب غزة وفلسطين!

لا يمكن لهذا الحزب أن يستمر الا بالتعاضد والتفاهم على غزة وفلسطين قضية الكوكب الأولى، قضية تؤرق البشرية، وتحافظ على توتر المشاعر لدى ناس هذا الكوكب حتى يكتب النصر لصالح انسان فلسطين.. وهو اليوم انسان الكون!