عينٌ على الغرب بين الشماتة والنقد

  • article

د. علي ضاهر - مونتريال

 

أعيش في الغرب وأنتقده. لا أشمت به، رغم وجود مادة للشماتة. فالشماتة مذمومة وقد ترتد على صاحبها، كما في الحديث "لا تُظهر الشماتة لأخيك، فيرحمه الله ويبتليك". لكن الشماتة سمة ملازمة للإنسان، من الصعوبة التخلص منها. فهي تساعد على تعديل مزاج ببلية قد تضرب لئيما يستحق الضرب وتعين على إراحة قلب بعلّة قد تؤذي خبيثا يِسْتَأْهل الأذية.

 الخائف من الشماتة وعواقبها الأخلاقية او الدينية او غيرها، بمقدوره تعديل مزاجه وإراحة قلبه بإعتماد مبدأ "العدالة" ومن بنوده المعاملة بالمثل. "عامل الناس بمثل ما تحب ان يُعاملوك به" مبدأ ترضية عن الشماتة المذمومة. فإن عاملوك بخبث او نظروا اليك بإستعلاء او إزدراء فلا تدير ظهرك ولا تعطي خدذك الأيسر بل ما عليك إلا الصبر والإنتظار حتى تدور الدوائر. ألا يقال "ما طار طير وارتفع إلا كما طار وقع".

 الغرب مرّ بفترة بحبوحة وإزدهار. ظنّ انه اكتشف وصفة السعادة السرمدية. اعتقد انه قد تربع على عرش الحضارة الإنسانية. فصال وجال وتكبّر وتجبّر. توهم أنه استثناء. لا ينطبق عليه ما يجري في باقي الأمصار. لا تمسه لوثة خبيثة ولا تضربه مصيبة اليمة. لا يقترب منه الفقر والجوع ولا تطاله الحروب. كرهه التعصب، وتركته الكراهية. هجره الإقتتال الداخلي وخاصمته الفتن. تركت أصقاعه الحاجة ونأت عنه المصائب فإنتقلت الى مناطق أخرى واستقرت في دول الجنوب. نظر الى سكان تلك المناطق نظرة دونية فوصف حالهم بالمتأخرين وسلوكهم بالمتوحشين، فقال انهم: "سوفاج".

 في ذروة نشوته وأوج تكبّره نسى الغرب ان الدوائر تدور وهي عندما تدور، لا تكتفي بفئة، بل تطال بلدانا ومناطق، وتضرب عرض الحائط بكل التصنيفات، فتنال من أمور لا يمكن ان تمرّ على بال منظري تراتبية الحضارات وعلى خاطر مصنفي مكانة الثقافات. الدائرة لا تهتم الى ما توصّلت اليها المجتمعات ولا تنظر الى تقسيمها الى متأخرة ومتقدمة، لا تخاف لا من حضارة راقية ولا من متدنية، لا تمييز بين عربي وأعجمي، لا تفرق بين اسود وابيض ولا بين اشقر واسمر ولا بين غربي وشرقي. وهي حتما لا تهتم لا بمتوحش ولا بحضاري. فالدائرة تضرب خبط عشواء، "على العمياني".  

 مؤخرا، دارت الدائرة دورة كاملة فضربت هذه المرة بلاد الغرب المتحضر بقوة لدرجة أصابته بصدمة. استغرب كيف يمكن لهذا ان يحصل له! لماذا لم تشفع له المسيحية التي تطلب منه المحبة والمسامحة، وكيف ان لون بشرته البيضاء خذله وهو الذي ظنّه درعا يسد عنه الكراهية، وما بال العيون الزرقاء، مانعة الحسد، لم تسعفه، وما جرى لشعره الاشقر حتى يخذله وهو الذي ظنّه سدا بوجه الفقر والجوع.  إستغرب: كيف يمكن لحرب ان تندلع بين دول غربية متحضرة أطلقت عنان الفردية والإستهلاك، وشرّعت زواج المثليين والمتحولين! او لقتال يجري في بلاد متحضرة قلّ فيها الزواج وكثرت فيها المساكنة وصرف سكانها النظر عن العائلة والأطفال وشجع الولادة خارج العائلة! او كيف يعقل ان تشهد مثل هذه الأمم، التي يسميها "متحضرة"، أزمة لاجئين حضاريين بيض شقر زرق! كيف يمكن لغرب متحضر ان يقوم بأعمال كان، حتى الأمس القريب، يستنكرها ويلصقها بشعوب "متوحشة"، فإذا به يستخدم نفس الأساليب: يستعمل سلاح التجويع، يحاصر السكان ويقطع الموارد عنهم، يقتل على الهوية، يقصف عشوائيا، يصادر أموال الأشخاص ويستولي على اصول الشركات، يحرّم ثقافة الآخر ويمنعه من التعبير، فيضرب بعرض الحائط بالقيم التي كان يروّج لها ويصرخ بها عاليا.

 لا شماتة بغرب ظنّ انه تخلص من الفقر والجوع فإذا ببنوك الطعام تنتشرفي ربوعه وتقنين الكهرباء والماء يعم بلاده؛ واعتقد ان التعصّب ابتعد عنه فإذا به ساكن بين فئاته، بين اللاجئ والمهاجر وإبن البلد؛ وإفتكر ان الإقتتال الداخلي قد نكره فإذا به يعشعش بين الأسود والأبيض وبين أبناء الضواحي والمدن؛ وإعتقاد تخلصّه من الفتن والإقتتال الداخلي والجرائم والعنصرية والتفرقة فإذا به يتجذر اكثر فأكثر في مجتمعاته.

 القضية ليست شماتة بل حق النقد الذي يعتبر من حقوق الانسان، حتى ولو جاء الى الغرب تاركا بلده وساعيا وراء حياة افضل.