لِمَ أنا؟

  • article

بشير القزّي- مونتريال  


منذ قرابةِ أكثر من عقدٍ مضى، قرّرتُ زيادةَ قيمة المبلغ الذي تتقاضاه عائلتي في حال وفاتي من شركة التأمين، وذلك ان المبلغ الذي كان مُتّفقاً عليه ضمنَ وثيقة التأمين الأساسية بدا ضعيفاً بمعيارالأيام المتقدّمة! طلَبَتْ مني الشركة إجراء بعضِ الفحوصات الطبية تحت إشرافها، وهكذا كان! لدى صدور النتائج، فوجئتُ بان الشركة أرسلت لى نتائج الفحوصات التي أُجْرِيَت مرفقةً برسالة تقول فيها أنها ترفض رفع قيمة مبلغ التأمين ما لم أقم بإجراء فحوصات طبيّة إضافيّة تحت إشراف طبيب العائلة!

قمتُ بزيارة الطبيب الذي أقصده منذ مدة لمتابعة الإشراف على صحتي عند اللزوم وعرضتُ عليه النتائج التي وصلتني مع رسالة الرفض! استغربَ ذاك الرفض في بادئ الأمر ثمّ قام بتحويلي على عددٍ من الأخصّائيين منهم طبيب المسالك البوليُة وطبيب المعدة والجهاز الهضمي وطبيب القلب… كما طلب مني إجراء فحوصات إضافية للدم.

بعد أن أخذت مواعيد مختلفة لدى الأطباء قمتُ بزيارة كلٍّ منهم حسب التواريخ المحددة. أمّا لدى زيارتي لطبيب القلب فاكتشفَ لدى الفحص بالسمّاعة الطبّيّة أن لديّ صفرة على القلب ممّا يعني ان لديّ مشكلة في الصمّام الأبهر (الصمّام الأورتي) ممّا يتطلّب إجراء عمليّة جراحيّة لتغييره بصمّام اصطناعي. وقد يعود ذلك الى عامل وراثي! وطلبَ مني ان أخفف من أي نشاط رياضي. طلب مني إجراء فحوصات إضافيّة للتأكّد، وكان منها اختبار الإجهاد، والتصوير تحت الاختبار النووي في حالة الركود أو تحت الإجهاد، إلّا انه لم يظهر أي دليل على الإصابة! أما لمّا قمتُ بتصوير الصدى تبيّن ضيقُ المجرى الذي بات قريباً من الحدّ الأدنى المسموح به، قال الطبيب أن عليّ إجراء عملية قلب مفتوح في غضون أقل من سنة! صُعقتُ بالخبر الذي لم أكن انتظره في ذاك العمر!

بعد ستّة أشهر قمتُ بتصويرٍ ثانٍ للصدى وتبيّن ان ضيق مجرى الصمّام قد نزل تحت المستوى المسموح به. وإذ كنت أعدُّ العدة للسفر لتمضية أعياد الميلاد وراس السنة في دُبي لدى ابنتي التي كانت تعمل هناك، رفضَ الطبيب السماح لي بالسفر قبل القيام بفحوصات إضافية، وهي ضرورية ومن الموجب إجراؤها قبل القيام بالعملية لدى عودتي من السفر!

في يوم تلى فحوصات الدم التي تمّ إجراؤها، تلقّيت اتصالاً من مكتب طبيب "الأنكولوجي" أي المختص بالأمراض الخبيثة! فوجئتُ في بادئ الأمر وبادرتُ بأخذِ موعدٍ معه على عجل!

دخلتُ في البدء إلى مكتب الطبيب المساعد، وكانت زوجتي ترافقني. أعلمني بأني مصاب بمرض "المايلوما المتعددة"، وهو أحدُ أنواع أمراض السرطان القليلة الوجود، وهو يًشخَّص لدى التأكّد من وجود زيادة ملحوظة في بروتينات الدم، ممّا يؤدّي لاحقاً الى تآكل في عظام الجسم… ثمّ استطرد قائلا، وكأنُه أراد أن يُطمئنني على طريقته، ويُخفّف من ارتيابي:"لا تخفْ! ان الذين يُصابون بهذا المرض يعيشون، بعد التشخيص، من ثلاث الى سبع سنوات!"

بعدئذٍ دخلتُ مكتب الطبيب المختص وشعورٌ يتملّكني: "لِمَ أنا؟ هل من الممكن ان أُصابَ بمرضين خطيرين دفعة واحدة؟" تفحّصتُ شكلَ الطبيبُ، كان يوازيني طولاً، خفيف الشعر الأشقر، أزرق العينين، أبيض البشرة، شاحب الوجه ونحيل الجسم! همستُ في أذنِ زوجتي: "ألا يبدو هو أكثر مرضاً مني؟"

طمأنني الطبيب بأنه بإمكاني إجراء عمليّة القلب وما أن أُكمِلَ فترة النقاهة، حتى يكون بإمكاني العودة الى عيادته لتلقّي العلاج اللازم!

سافرتُ برفقة زوجتي إلى دُبي وعُدنا بعد الأعياد، وكان تسجيل صوتي على رقم هاتف البيت ينتظرني للاتصال بالطبيب الجرّاح!

لدى الاجتماع بالطبيب تمّ تحديد موعد العمليّة. وفي الليلة التي سبقت موعد العمليّة تمّ إدخالي للمستشفى وكان أفرادُ عائلتي الصغيرة يرافقونني! في صباح اليوم التالي، وبعد إدخالي في عالم الغيبوبة من تحت تأثير البنج، تمّ إجراء العمليّة وذلك قد يكون استغرق ساعات طوال!

لا بدّ من الذِّكر انّي عشتُ اياماً، بعد تلك العمليّة، لا أصدّق أنها مزيّفة على الرغم من نكرانِ من كان حولي لوقوعها ! وكأنّي بارحتُ مكان إقامتي وسافرتُ الى أمكنة بعيدة… أمضيتُ ثلاثة أسابيع في المستشفى إلى ان انتقلتُ الى البيت لتكملة المعافاة!

وإذ بدأتُ باستعادة قواي ونشاطي بعد شهرين أو أكثر، انتابني وجعٌ في ظهري، كان يزدادُ ألمُهُ يوماً بعد يوم، ولم تكن المسكّنات التي تمّ وصفها لي قادرة على تخفيف الأوجاع التي كانت تؤرقُ نومي وتمنع عنّي راحتي!

بعد معاناةٍ فاقت كلّ احتمال، دخلتُ مجدداً الى المستشفى حيث تبيّن أني مصاب بكسور في بضعةِ خرزات من سلسلة الظهر. وتبيّن أيضاً ان ذلك يعود الى إصابتي بمرض "المايلوما المتعدّدة"!

طوال فترة اقامتي في المستشفى كنت مستلقياً على ظهري، انظرُ الى سقف الغرفة وأفكاري تجوب آفاقاً لم تصلها من قبل! كنت أتساءل:" هل نهايتي قد قربَ ميعادها؟" مع اني كنت على يقين من أن كثيرين يعيشون عشرات السنين وهم على فراش الموت، بينما يموت غيرهم بلحظات وهم في تمام الصحة والعافية!

كنت أنظر إلى العلى وأُسائلُ ربّي: "انتَ من أرسلتَ بي الى هذه الدنيا، وقد زوّدتني بمُهمة، وقد قمتُ بإنجاز بعضٍ منها، إنما لم أتمكن من تكملة كلّ ما أتيتُ من أجلهِ! إذا أردتَ ان تُنهيَ ايّامي، فهذا شأنكَ وانت القادر القدير! إنما، للأسف، لن أتمكّن من إتمامِ كلّ ما طلبتهُ مني!"

لم تتأخّر ابنتي بالمجيء من دُبي كي تكون إلى جانبي أثناء تلك الأوقات العصيبة! وإذ كانت قد تعرّفتْ في تلك البلاد على شابٍ من أصول هنديّة، اسمه "مانجو"،لاقى شهرة واسعة بمعالجته لأشخاص يمرّون بظروف صعبة، وذلك عن طريق التكلّم وإيّاهم ومحادثتهم، أرادت أن تجمعني به بواسطة مكالمة هاتفيّة. اتصلتْ به وسلمتني الهاتف وخرجتْ من الغرفة! تكلّمتُ معه قرابة الساعة وقد سألني الكثير من الأسئلة كي يتعرّف على طريقة معالجتي للمصاعب. بعد الانتهاء من المخابرة، تكلّم "مانجو" مع ابنتي قائلاً: "والدكِ سيُشفى لا محالة، ولديه القدرة على مقاومة المرض!"

وإذ شفيتُ من معاناتي، وإذ كان "مانجو" يُؤدّي وصلةً كوميديّة على أحد المسارح في دُبي، وقع فجأة على المسرح جثّة هامدة، وكان في بداية الثلاثينات من العمر!