حسين حب الله ـ مونتريال
لا ينكر اثنان في الجالية بشكل خاص وكندا بشكل عام وقوفَ رئيس الوزراء الكندي الحالي جوستان ترودو إلى جانبها حينما تعرضت لأقسى اعتداءين في تاريخها. الأول حين نفذ إرهابي اعتداءً استهدفَ المصلين في مسجد كيبك عامَ 2017، ما أدى إلى استشهاد ستة من المصلين، إضافة إلى سقوط عدد من الجرحى. والثاني عندما دهس إرهابي آخر عائلة مسلمة في لندن، أونتاريو عام 2021، ما أدى الى استشهاد أربعة من أفرادها وجرح الخامس. هذا إضافة إلى وقوف ترودو بِجانب الجالية في مواجهة القانون الواحد والعشرين المشؤوم في كيبك، الذي يمنع المحجبات من العمل في المؤسسات الرسمية الكيبكية.
مواقف ترودو المذكورة هنا هي واجبه كرئيس للوزراء الفدرالي وليس منةً أو فضلاً منه على أحد. كما من واجبه الوقوف عندَ مسافة واحدة من المواطنين.
التذكير بهذه الأمور مجتمعة يتم حين ننتقد الموقف الأخير لترودو من المظاهرات التي انطلقت في المقاطعات الكندية المختلفة بهدف التأكيد على حق الأهالي في احترام الآخرين رأيَهم في ما يتعلق بتنشئة أطفالهم وفقاً لدينهم والحفاظ على طفولتهم. هذا قبالة محاولات زجهم في قضايا تتجاوز أعمارهم وتسلب براءتهم وتفتح أعينهم على واقع هُم بِغنى عنه، فيُوحى من خلاله لهم في عمر مبكر أن الطفل - مثلاً - يمكن أن يكون ذكراً أو أنثى، أو الاثنين معاً، أو عكس ذلك.. واللائحة تطول وتطول.. والأنكى من ذلك محاولات إجبار الطفل على المشاركة في أنشطة تخص المثليين وإشعار من لا يشارك فيها أنه منبوذ ومرفوض، رغم أن هذا من حقه وحق والديه. أضف إلى ذلك محاولات تغيير الهوية الجنسية للأطفال متى ما شعروا بأنهم من جنس مختلف من دون الرجوع إلى أهلهم!
مع كل التقدير لِمواقف ترودو السابقة، فتعليقاته الأخيرة التي استهدفت التظاهرات أظهرت عشرات الآلاف النازلين إلى الشوارع بمظهر "الكارهين"، وذلك بعدَ أن حملوا شعار "أتركوا أطفالنا وشأنهم" للمطالبة بحق الأهالي بإرجاع المسائل إليهم في تقرير ما يخص أطفالهم. فقال في "تغريدته" عقب التظاهرات العارمة عن الأهالي النازلين إلى الشارع - بشكل لا لبس فيه ولا يحتمل أي تأويل: "نُدين هذا الشكل من أشكال الكراهية".
عن أي كراهية يتحدث ترودو؟ فالمظاهرات رفعت شعارَين موحَّدَين هما "إحموا الحقوق الأبوية" (PROTECT PARENTAL RIGHTS) و"أتركوا أولادنا وشأنهم" (LEAVE OUR KIDS ALONE). وإن ردّدت قلة من المتظاهرين شعارات مختلفة فهذا أمر طبيعي يحدث في كل المظاهرات ولا يُبنى عليه، سيما إذا عرفنا ما أكد عليه منظمو المسيرة قبل انطلاقها.
هنا أشير إلى أن موقع صدى المشرق نشر عبر صفحته على منصة "فيسبك" بيانين مختلفين صادرين من أطراف لها علاقة بالمظاهرات، تؤكد على أن الأهالي ومعهم الأطفال "لا يكرهون أحداً ولا يعادون أحداً، وإنما يعبرون بشكل سلمي عن آرائهم". وفي البيان الثاني ورد تحت عنوان "لماذا نتظاهر" ما يلي: "أولا وأخيراً، نؤكد على أننا لا نكره أحداً، ولا نعتدي على حرية أحد، ولا نعادي أحداً. إنما خروجنا خروج سلمي - يضمنه القانون - للتعبير عن رأينا في ما يخص السياسة المتبعة في المدارس مع الأطفال، وللدفاع عن حريتنا".
لكن رئيس وزرائنا - بعد وقت قصير من التظاهرة - خرج على الكنديين "بتغريدة" قال فيها ما ترجمته إلى العربية بالحرف: "فلْأوضح شيئًا واحدًا: لا مكان لرهاب التحول الجنسي، ورهاب المثلية الجنسية، ورهاب مزدوجي التوجه الجنسي في هذا البلد. نحن ندين بشدة هذه الكراهية ومظاهرها، ونقف متحدين لدعم الكنديين المنتمين إلى جماعة "2SLGBTQI+" في جميع أنحاء البلاد – نعترف بكم ونقدِّركم".
مَن أقنع رئيس الوزراء بأن يصف المظاهرات التي شارك فيها عشرات الآلاف من الكنديين من الأديان والأعراق والألوان المختلفة في كندا بأنها تنم عن الكراهية؟ من هو المستشار الفذ الذي ورَّط رئيس الوزراء بهذه التغريدة التي تتهم الأهالي بشكل لا لبس فيه بالكراهية؟ فهذا قد يؤجِّج كرهَهم بالتزامن مع كره الإسلام بالخصوص، فما زال المسلمون يعانون منه في كل مقاطعة.
من يريد أن يعرف رد فعل الجالية على كلام ترودو عليه أن يقرأ جيداً موقف الجمعية الاسلامية الكندية (MAC)، التي طالبت ترودو ـ ومعه مجالس المدارس ـ بالاعتذار عن "تغريدته". وهو موقف يعكس حجم الامتعاض الذي أصاب الجالية الإسلامية الكندية من البحر إلى البحر، والآن يدور نقاش جاد وراء الكواليس عن الجهة التي تريد الجالية أن تعطيها صوتها في الانتخابات القادمة.

فالجالية شعرت بالخذلان من هذه التصريحات التي شاركَ فيها ترودو عددٌ كبيرٌ من السياسيين في المستويات المختلفة، كتصريحات رئيسة بلدية مونتريال ڤاليري پلانت ـ التي يُنتظر منها توضيحُ موقفها المُهين للمتظاهرين في مونتريال.
پلانت قالت في "تغريدة" لها: "إن عرض الكراهية الذي رأيناه في خلال المظاهرة المناهضة لمجتمع المثليين في مونتريال أمر مفاجئ وغير مقبول. يستحق المنتمون إلى جماعة "2SLGBTQI+" العيشَ بكرامة واحترام وأمان، فهذا أمر محسوم". وأضافت: "لن نتسامح مع أي سلوك غير لائق أو تفريقي أو محرض على كرههم. مونتريال مدينة منفتحة ومهتمة، وستظل دائماً هكذا".
ولعل هذا ما يفسر موقف الشرطة التي كانت تتعاطى بتفرقةٍ واضحةٍ مع المتظاهرين من الأهالي، فاصلةً صفوفهم عن بعضها في محاولة للإيحاء بأن مظاهرتهم كانت متواضعة. وهو واضح في البث المباشر الذي أجريناه وفيه اعتراض مباشر على ما قام به رجال الشرطة.
أيضاً يتحدث كثر في الجالية بأسى عميق عن موقف رئيس الحزب الديمقراطي الجديد جَغميت سنغ، الذي شارك شخصياً في المسيرة التي نظمتها جماعة "+2SLGBTQI" مقابل مظاهرة الأهالي.

لعل الموقف المتوازن الأبرز كان من رئيس وزراء كيبك فرانسوا ليغو، الذي أكد في تصريح له: "على مجتمعنا واجب حماية المنتمين إلى الأقليات، ومن ناحية أخرى، أستطيع أن أتفهم الأهالي القلقين والمواطنين القلقين".. وأشار إلى أن حكومته ستعيّن "لجنة حكماء" معنية بالهوية الجنسية بحلول كانون الأول/ ديسمبر.
كان بإمكان ترودو - بكل بساطة - أن يقول إنه يتفهم مخاوف الأهالي ويرفض كرهَ أي مجموعة كندية في الوقت نفسه. لكنه اتخذ موقفاً غير موفق، ولم يكن مدروساً أبداً.
على رئيس الوزراء الكندي أن يراجع موقفه جيداً ويتجرأ ليقف عند مخاوفِ الجالية الاسلامية وكلِّ الحريصين على أولادهم من أتباع الديانات والعرقيات الأخرى، وأن يستمع إلى هذه المخاوف ويحاول طمأنتهم، لا أن يهاجمهم كما فعل في "تغريدته"، ولا أن يتهمهم بما ليس فيهم - كما هو مؤكَّد.

ننتظر من ترودو موقفاً يليق بكندا التي تتغنى بالتعددية والقوانين، وشرعة حقوق الانسان والمساواة، وحرية المعتقد والدين، والوقوف عندَ مسافة واحدة من جميع المواطنين.