حياتنا الإغترابية إلى أين؟

  • article

لمى فواز* ـ مونتريال

 حين يهاجر المرء إلى بلاد غريبة وبعيدة جغرافيا ومعنويا عن هويته الأم يكون أمامه حلان في كيفية تعامله مع واقعه الجديد: إما التأقلم والإنصهار في ماهية المجتمع الجديد ليكون عنصرا فعالا وناجحا، وإما المحافظة على كيانه وقيمه بمؤازرة التكيف الفعال والإيجابي والسعي للحفاظ على هويته داخل هذا المجتمع الجديد. طبعا أنا لن أتطرق إلى مجمل الحالات التي قد تنتج بعيدا عن هذين الحلين الذين يفترضان وجود تفاعل منتج مع المجتمع الجديد، أي أن المهاجر في كلتا الحالتين سيكون له دور فاعل في المجتمع. أما الحالات الأخرى من تهميش وانعزال أو ضياع فهي موجودة ولا تحسب ضمن الحالات المتأقلمة فعليا في الحياة الإغترابية، برأيي. وبقصد الدقة في التوصيف، هنالك عدة درجات داخل كلتا الحالتين أي أننا نجد تعددية وتنوع في الأنماط والأساليب والأدوار ضمن دوائر مختلفة في خضم هذا التطور المهجري إن صح التعبير.

 وعليه، فالحالة الإغترابية الأولى ستجد سلاسة وسهولة في التأقلم باعتمادها الأطر والموارد المتاحة لها في مجتمع الهجرة، مكونة لها دائرة تناسبها وتحتضن حاجاتها وترعى مصالحها. وسنجد أنها في سنين معدودة ستحقق الكثير من النجاحات ولسنا هنا في وارد التقييم أو الحكم لأن ذلك ليس من حقنا. فحوى هذا البحث القصير هو فقط الإضاءة على الجوانب المتعددة لحياتنا الإغترابية وفرصة للتأمل وإعادة التقييم. أما الحالة الثانية التي تسعى للنهوض دون تغيير قالبها فهي تعرضت وتتعرض للكثير من التحديات للتمكن من التأقلم مع جذورها المنتقلة في مجتمع لا يكفل حاجاتها المعنوية ولا يؤمن مقتضيات عيشها ضمن قيمها ولا سيما الدينية منها.

 من الطبيعي أن يكون التفكير الأولي البديهي هو إنشاء تجمع يكون بمثابة صورة مصغرة للمجتمع الأم ويشمل نوعا من المركزية التي تنظم مجموعة نشاطات وتؤسس لخدمات يسعى المجتمعون من خلالها إلى إنجاح هذه التجربة الإغترابية دون أن تعني الغربة عن الدين والهوية. وهذا فعلا ما قد تحقق وبنجاح في الماضي القريب لأن أعمار المجتمعات تقاس بالعقود ونحن ما زلنا في سن الطفولة بالنسبة لعهدنا وتواجدنا في كندا. فهذا النجاح الأولي والجزئي لا يعتبر نهائيا أو كافيا لتستقر الأمور عليه وتقف جامدة أمام تركيبته. فحينما نزرع بذورا طيبة في الأرض ونرعاها ونساهم في تقويمها، لا يمكننا بعدها أن نطرح ثمارها أو نلجم نموها. إن ذلك ينافي المنطق والهدف نفسه من عملية الزرع.

 ولأكون واضحة أكثر ولا أطيل عليكم، فنحن نريد النهوض كمجتمع مسلم اغترابي ناجح معتمدين على مراكز وخدمات تعيننا على تحقيق هذا الهدف. ومن الطبيعي ألا يتحقق ذلك من خلال تجمع واحد أو ينحصر بمجموعة واحدة مهما كانت فعاليتها، لأن الحاجات تتطور باختلاف الأجيال وهي أيضا تختلف باختلاف أنماط التفكير وتنوع المقاربات الحياتية وظروفها لكل فرد ومجموعة. فإذا سلمنا لغرض وجود هذه التجمعات وهي الخدمة لجمهور يتزايد لديه الوعي وتتطور لديه الحاجة للتعبيرعن خصوصيته من جيل إلى جيل، وجدنا أن رعاية هذا التعدد واحتضانه واجب على كل فرد منا ملتزم بالحفاظ على وحدة بنيان هذا المجتمع الاغترابي المسلم.  أعتقد أن الكل سيتلمس أن هذا التعدد لا بد أن يغنينا حياتيا وفكريا وثقافيا ودينيا. المطلوب أن تلتقي كل هذه الدوائر في كثير من المساحات دون أن تكون بالضرورة نسخة طبق الأصل عن الأخرى.

 وهنا لا بد من التنويه بكل الأيادي البيضاء التي سعت وتسعى دوما لتحقيق هذا الهدف، وهي لعبت وتلعب دورا أكثر من فاعل وعظيم. ويا ليتنا نكرس مستقبليا هذا الإلتقاء من خلال مؤتمر سنوي يشمل بصورة دورية كافة المدن والمؤسسات في كندا على شكل يقدم فيه كل مركز إنجازاته السنوية ويشارك الآخرين تساؤلاتهم وتحدياتهم فيستفيد الكل من الخبرات التي تحققت، وتكون هنالك نهضة فعلية نتيجة لهذا التفاعل الذي سيرقى حتما بمجتمعنا المسلم الإغترابي. فمن المؤسف حقا أننا لا نسمع بالكثير من الفعاليات والجمعيات الهادفة، ولا ندرك مدى الطاقات والقدرات الموجودة في ساحتنا الإغترابية. تخيلوا معي مؤتمرا سنويا تتواجد فيه كل هذه الطاقات وتتحاور وهذا بحد ذاته يكون انعكاسا إيجابيا للهوية المسلمة في كندا.

 نحن في حركة حياتنا الإغترابية لا بد من أن ننفتح على المجتمع والبلد الذي احتضننا واستقبلنا وأمن لنا فرصا حرمنا منها للأسف في بلدنا الأم. لدى هذا البلد قيم كثيرة جميلة وأمثلة ناجحة علينا الإقتداء بها وتطويرها بما يتناسب مع واقعنا. فالتكيف في مجتمع الإغتراب ينتج عنه الأخذ والعطاء مع الآخر. أن نأخذ الإيجابيات الموجودة في المجتمع الكندي ونعطي كذلك من إيجابيات ديننا وهويتنا لهذا المجتمع. وعليه، فلا يمكن لنا الاستمرار في حياة هي امتداد لأنماط حملناها معنا في حقائبنا حين هاجرنا. تمسكنا بها وهي بالية لن ينفعنا. القيادة الحقة هي خدمة الناس، هي إعطاء الفرصة للجميع أن يعبروا عن أنفسهم مع تشجيعهم، وهي الإرشاد. القيادة ليست السلطة وليست لخدمة الأغراض الشخصية بل لخدمة الناس والمجتمع. 

 أكاد أجزم أننا في تضافر جهودنا سنحقق بإذنه تعالى الكثير، لأن التحديات اليوم جدا كبيرة، ولن ينجح أي فرد أو مجموعة لوحدهما في تجاوزها. فلنرحب بكل بادرة جديدة ونعطها الدعم كل وفقا لإمكانياته، وهذا برأيي أضعف الإيمان. فلنعط الفرصة لمن لديه الإندفاع والشغف لبلورة نمط آخر يضاف إلى عديد نشاطاتنا كجالية ونشجعه إن كان ذلك في العمل الثقافي أو الرياضي أو الديني أو الإنساني.

 ختاما، دعائي ورجائي أن يوفقنا الباري عز وجل للإلتقاء على محبة آل بيت النبوة الأطهار عليهم أفضل الصلاة السلام، وأن نكون لهم زينا ولا نكون عليهم شينا، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.


*نبذة عن الكاتبة
 لمى مصطفى فواز هي أكاديمية حائزة على دكتوراه في الطب التجريبي وعلم المناعة، تعمل في مجال الأبحاث وحاضرت في عدة جامعات منها الجامعة الأميركية في بيروت، الجامعة اللبنانية، والجامعة اللبنانية الدولية في اختصاص علم الأحياء، المناعة، المختبر، والتكنولوجيا وتطبيقها لا سيما في التشخيص المخبري للأمراض والصناعات الغذائية. بالإضافة إلى اهتماماتها الأدبية والفكرية والدينية . وتعمل حاليا في جامعة ماجيل، مونتريال  ضمن برنامج للأبحاث في أمراض والتهابات الدماغ و الجهاز العصبي.