الحاج علي دياب.. الى لقاء!

  • article



طلال طه ـ مونتريال

تعرفت عليه متأخرا، كان قد تجاوز الخمسين، فاتني نصف قرن من الدهشة في التعرف على الانسان في جذره الأول: "ولتصنع على عيني"، كما في قصة أم موسى!

خمسون سنة مضت، فلتت من بين يدي ذاكرته الخصبة بحكاياه الرائعة، ثم التقينا في رحلة حج بيت الله الحرام، إذ استطعنا اليه سبيلا في ذاك العام، تعرفت عليه جيدا، جوانب شفافة في شخصيته، كانت هي الوجه الحقيقي للحاج أبا حسين لاحقا!

في السفر - والحج سفر بتجليات عليا، تقترب من الآخر الى المسافة صفر!

عكس رسومات المدرسة "الانطباعية" التي تفترض الابتعاد عنها كي تعبر عن جوهرها، بعض الناس يفترضون أن تقترب منهم لكي تراهم جيدا، وتعرفهم جيدا، وتعي سر انطباع صورتهم في مخيلتك.. هذا ما كانه الحاج علي، أو ما تمكنت من فهمه فيه وعنه!

في حج بيت الله الحرام ينكشف الناس، عراة الا من قليل، يخلعون وجوههم المستعارة، ويفتحون أبواب القلوب الصدئة، لتكشف عن عالمهم السري!

أبو حسين، لم يكن أصبح حاجا بعد - كما أنا، حين دخل المدينة، لم يخلع وجها مزيفا، ولم تصدأ أبواب قلبه، ولم يكن له عالمه السري إلا بالقدر الذي يغوص فيه عميقا في الحديث عن المؤامرة!

كان أبو حسين مكشوفا على حقيقته، وجه واحد يحتل المساحة بين الرأس والقدمين، وما يعتمر في القلب والفؤاد والعقل والوجدان، كان نسخة مطورة عن أناس المدن الفاضلة!

من المسافة صفر كنا نتعارف وشعائر الحج والبوح والسرد تترى، أزعم أنني تعرفت عليه من جديد، هو أستاذ اللغة العربية والمربي والثائر والكاتب والناشط والطامح للتغيير، الرافض للخطأ والغلط.. انكشفت صفحته أمامي!

عمق الحفريات في ذاكرة مثقلة بالأماكن والأحداث والتواريخ والمواقف، كان جزءا من تاريخ القرن الهجري الأول ما بين مكة والمدينة وحادثة ليلة العقبة - المؤامرة تتجدد ما بين البقيع والحرم وأنحاء نجد!

لم يكن قبلا غامضا في سيرة حياته ليكون اليوم، لكن بوحه في تلك الليالي ما بين مكة والمدينة وصلاة الفجر تتنفس في الأفق أمام الكعبة في الحرم، كنا فرادى بين جمع كبير من المصلين، وحدنا كنا، وملامح قصص كثيرة تنضج في جلساتنا، وخصوصا من وحي الحرب الأهلية في لبنان، وحروبنا المتناسلة منها وعنها في مونتريال وكندا وأمريكا الشمالية والغرب!

مذ حطت قدماه في هذه المدينة، أصبح علي دياب أستاذها، وجزءا من نسيجها الاجتماعي والسياسي والثقافي ومحورا ومركزا في حياتها العامة.

يرصد حركة الناس وينظم بعض علائقها، مشاركا في اغلب الأنشطة والفعاليات، فاعلا ومنفعلا كثيرا أمام الغلط، يرفض التشوهات والنتوءات التي ظهرت في جسم الجالية في بداية التسعينات، وخصوصا في مؤسستهم الأم!

كان صوتا عاليا، يعلو بالحق، قلمه حاد ومباشر وساخط في أغلب الأحيان، ضاقت مساحته في الصحيفة عن تحمل وجعه، فتوقف عن الكتابة احتراما لبعض الخطوط الحمراء.. التي استبيحت في مساحات أخرى، وكأني به حين توقف عن الكتابة كمن توقف عن التنفس والحياة، ولعل أوجاعه بدأت من حينها!

ما آلم قلب "أبو حسين" وجع الوطن المسخ، الذي نقل عدواه الى جاليتنا البائسة، أصبح الألم مضاعفا والبؤس غراب أسود يلقي بظله فوق سماء المدينة منذ حوالي 35 سنة!

حاول الأستاذ علي دياب تمزيق كتاب التاريخ الأموي لهذه المدينة، ويعيد الاعتبار للنور والعشق والحق والعدل في ذاكرتنا الكسولة والمريضة والمتصالحة مع الشذوذ والانحراف!

التسطيح والتفاهة والانتفاخ المرضي والاستعراض أمراض وأعراض أصابت جسم الجالية، هذا ما شخصه "أبو حسين" في عيادته الفكرية...

فيما كان يعالج أمراض الجالية، كان السرد من قواعد عشقه، لا يخجل بعد إطالة وإسهاب، فإذا استوفت الرواية مقاصدها، استلقى على كرسي من كبريائه!

كان في طهرانيته قديسا يريد أن يقول شيئا، يفاجئك دائما بأسرار وعلل الأحداث والأشخاص والأماكن والتواريخ الغامضة، ولديه في ذلك دقة عجيبة، يقرأ في كتاب مفتوح، صفحات مسودة بالألغاز، تتفكك بين يديه!

له عالمه الخاص، فيه من الغموض ما يعادل ما فيه من الوضوح والكشف!

ذهب بعيدا في حفريات "الجالية"، موغلا في رصد التشوهات التي يمر قربها العابرون، بحواسه الست أو السبع كان يستشعر مكامن الخطأ والصدأ والغبار والقنابل الدخانية التي سممت الجالية وروحها وطمست تاريخها وسرقت آثارها لبيعها في معارض أموية متجددة للنخاسة!!

بطولات مفتعلة، انتفاخ حد الانفجار - الذي حصل لاحقا بقوة 10 درجات مقياس الخيانة والغدر والفشل!

خطب عالية النبرة، منبر يهتز لهول الصراخ بأكاذيب ينوء بثقلها العصبة أولي القوة.. وغير ذلك كثير، مما يستعيده أبو حسين، ويعيد تفكيكه ويرجعه الى مصادره وجذوره الأولى: بصاق ونفاق وارتزاق!

كان جملة مفيدة في كتاب القراءة للصفوف الأولى، يقرأها أبو حسين كأنها آيات تنزلت لتوها في غار هذه المدينة وحرائها!

له لغته العصية على الالتباس، واسلوبه المتصالح مع السرديات الطويلة: حدثني أب عن جدي عن غفاري طرد من الشام الى البحر، فحل في جبال يقال لها عاملة، نصب خيمته، وأخرج ما في زاده من رطب.. وثورة وغضب، وكان أبو حسين هناك، ينظر اليه من خلف رصاصة انطلقت في القرن الهجري الأول ولم تستقر بعد!

وكان الأستاذ علي دياب تلميذا نجيبا في مدرسة أبي ذر، نسخة منه استنسختها مدرسة أبا ذر عبر الأجيال، هؤلاء الذين قيل فيهم: يمشي وحيدا، ويموت وحيدا ويبعث وحيدا!

حدثني مرة عن طريقة جديدة - طريقته - في تعليم اللغة العربية، لكن المؤسسة التي يدرس فيها لم تتبن هذا الأسلوب جديدا، ثم حدث أن قابلت أحد كبار اللغويين المدرسين للغة العربية ومحو الأمية والذي عمل سنوات طويلة في منظمة اليونيسكو، فأطرى على الفكرة وايدها وقال: لعلها الطريقة الوحيدة لتعليم اللغة العربية كلغة ثانية في هذه البلاد!

ثم سمعت من شباب كثر، تلمذوا على يديه ودرسوا في كتابه، سمعت منهم أنهم فقدوا صديقهم الذي يعلمهم اللغة العربية والصدق والصلاة!

خلته رجل لا يتعب، يقترب من الناس حد الالتصاق بقصصهم وهمومهم ومشاكلهم.. عرفت بمرضه متأخرا، كان يعتاد على الغياب، وخلت غيبته الأخيرة جزءا من أسراره الكثيرة!

انتظرت أشهر عديدة اتصالا منه لشرب فنجان قهوة، كان قد وعدني بحكايات كثيرة لم يروها لي بعد.. صدقته كعادتي!

ثم اسرف في الغياب، بدأت أفكارا سوداء تساورني، لعل في الأمر خطأ ما، ليس الحاج علي، وليس الآن، ثم اقتحمت خليته السرية باتصال، فجاء صوته ضعيفا، يعتذر عما لم يقل!..

أردت أن أتفاءل، أنا الذي مثل "ابو حسين" مساحة وحقبة في ذاكرتي القصصية والروائية، لا زلت أنتظر على رصيف، علني أسمع روايته الأخيرة!

لقد رحل مدفوعا بطاقة نارية في قصة من قصصه وألغازه المشفرة، كان يختبئ في حياته في رواية تنضج بهدوء خلف حائط من الأسرار وابتسامة من وجع!

لم يبق لدينا الكثير من الوقت، لم يبق من الوقت لافتعال أصدقاء جدد، وما تجمع لدي من رصيد صداقات بدأ بالنفاذ، إنهم يتساقطون!

الأستاذ علي دياب، أو الحاج أبو حسين، اسميك ما شئت، كان لديك قصصا كثيرة وكنت أستعد لسماعها!

 

 ملاحظة: في الذكرى السنوية الأولى على رحيله.. عصي على الغياب!