أبو تراب كرار العاملي
وصلنا إلى الإطلالة الرّابعة المتعلّقة بِ"ذي الْقَرْنَيْن"، هل توجد علاقة بين رقم الإطلالة ورقم "أربعة" في العنوان؟ كلّا، لا علاقة.
إن كان يهمّك معرفة دلالة الرّقمَيْن في العنوان... فابقَ معنا ولا تذهبْ بعيداً. وإن كنتَ لستَ مهتمّاً بهكذا معرفة، فلا بأس أن تبقى معنا أيضاً.
وإن قرّرت الذّهاب... فَعُدْ إلينا لاحقاً وحَقِّق ما تيسّر لك من فائدة مع "ذي الْقَرْنَيْن".
إن أردتَ معرفة قدرات صانِع... فانظُر إلى منتوجاته، وإن رغبتَ بالاطّلاع على قدرات مهندس... فأحْسِن التّأمّل في هندساته، وإن خطر لك أخذ فكرة عن مهارة معماريّ... فلا تتردّد بالذّهاب إلى مشاريعه، وإن بدا لك أنّها فكرة جيّدة بتكوين رؤية عن إمكانات طبيب... فعليك بجولة كاشفة على صحّة كلّ مَنْ تداوى بين يدَيْه. وإنْ وإنْ وإنْ... لعلّك فهمتَ التّكملة.
وإن حدث أن تبيَّنت لك قدراتٌ مُلْفِتة لأيٍّ من الأصناف البشريّة المذكورة أعلاه، أو تكشّفت لك إمكاناتٌ ذات مستوى متقدّم لغيرهم من النّماذج الآدميّة، فلا تنسَ أن تربط كلّ نتائج القوم بالمُسبّب الأساسي، ألا وهو خالقهم والمُنْعِم عليهم بعقولهم.
والآن، أين "ذو الْقَرْنَيْن"؟
"ثم مر برجل عالم فقال لذي القرنين: أخبرني عن شيئين منذ خلقهما الله عز وجل قائمين، وعن شيئين جاريين، وشيئين مختلفين، وشيئين متباغضين. فقال له ذو القرنين:
أما الشيئان القائمان فالسماوات والأرض، وأما الشيئان الجاريان فالشمس والقمر، وأما الشيئان المختلفان فالليل والنهار، وأما الشيئان المتباغضان فالموت والحياة. فقال: انطلق فإنك عالم" [بحار الأنوار الجامعة لدرر أخبار الأئمة الأطهار/الجزء الثاني عشر مؤسسة الوفاء بيروت - لبنان/العلامة الشيخ محمد باقر المجلسي " قدس الله سره"].
إذا أراد المرء أن يرفع شيئاً عن مستوى الأرض ويُبقيه مُعَلَّقاً في الهواء بلا سند أو عمد، كيف السّبيل إلى ذلك؟ مهمّة بعيدة عن متناول اليد ودائرة الإمكان البشري. أمّا عند اللّه تعالى، فالأمر يسير "اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا ۖ ثُمَّ اسْتَوَىٰ عَلَى الْعَرْشِ ۖ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ ۖ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُّسَمًّى ۚ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ يُفَصِّلُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُم بِلِقَاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ (٢)" [سورة الرعد].
قائمان عجيبان، نمشي على أحدهما والآخر يلعب دور السّقف المترامي الأطراف وشاسع الاتّساع "وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ (٤٧) وَالْأَرْضَ فَرَشْنَاهَا فَنِعْمَ الْمَاهِدُونَ (٤٨)" [سورة الذاريات].
انتقالاً إلى عنصر التّحرّك، فَلتحريك شيء ما، لا بدّ للمرء أن يتصدّى بنفسه ويلعب دور السّائق أو يضع جهازاً نيابةً عنه، مع الالتفات أنّ المادّة المُحَرَّكَة (طائرة، سيّارة وغيرهما) تشغل مساحةً محدودة، أمّا وضع أشياء "شاهقة الاتّساع" في حالة "جَرَيان"، فمرحباً بكم إلى السّاحة الإلهيّة ذات القدرة الّتي لا نظير لها "وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (٣٨) وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ (٣٩)" [سورة يس].
مروراً بعامل الاختلاف، ماهيّتان متناوبتان مع مراعاة مسألَتَيْ التّنسيق والانتظام المُلْفِتَيْن، فَلِلَّيل وقته وللنّهار دوامه "وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِبَاسًا (١٠) وَجَعَلْنَا النَّهَارَ مَعَاشًا (١١)" [سورة النبأ].
تخطيطٌ مُبهِرٌ يعكس قدرةً خلّاقةً لا مثيل لها، فتبارك مَنْ جعل هذا التّقاسم يحكم مسار الحياة، وطوبى لِمَنْ يسعى أن يُطلَق عليه أنّه أوفى ـ ولو جزئيّاً لصعوبة الكلّ أو استحالته ـ حقّ هذا "الجميل الحكيم" (تبارك وتعالى).
وصولاً للثّنائيّة الأخيرة، حيث البداية والنّهاية (وإن كانت هذه الأخيرة بداية لمسار آخر)، وكلتاهما تُظْهِران تجلّيّاً لقدرة الحاكم الباهرة.
فالظّهور من العدم، رائعة من روائع سلطان فريد وهديّة للمخلوق، هنيئاً لِمَن استفاد منها وأكمل المسير مُغْتَنِماً ومُثَقِّلاً زاده "إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنسَانَ مِن نُّطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَّبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا (٢)" [سورة الإنسان].
إلّا أنّ هذا الاستثمار يقف عند اصطدامه بالقدرة الرّبّانيّة الهائلة في الطّرف الآخر من المسير، تُسْلَب الهديّة ويُسْدَل السّتار... إلى حين "قُلْ يَتَوَفَّاكُم مَّلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إِلَىٰ رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ (١١)" [سورة السجدة].
وبين هَذَيْن التَّجلِّيَيْن، على العابرين أن يرسموا حكاية مصيرهم وماهيّة مآلهم اللّاحق، فإن كانت العلاقة تباغضيّة ـ ظاهريّاً ـ بين الحياة والموت، فليتصدّى السّالكون إلى مهمّة المصالحة والمواءمة بينهما.
كيف السّبيل إلى ذلك؟
سيرةٌ حسنةٌ، مليئة بالأعمال الصّالحة
ارتباطٌ وثيق بخالق الحياة والموت
فيصبح الموت خاتمة جميلة وبداية مسار تتويجيّ
"مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ ۖ فَمِنْهُم مَّن قَضَىٰ نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ ۖ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا (٢٣)" [سورة الأحزاب]
ويستحقّ السّالِك حينئذٍ صفة "العالِم"
وللحكاية تَتِمَّة
[وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِن بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ]