فلسطين بعيون كندية!

  • article

طلال طه - مونتريال

لا شك ان الإنجازات الكبيرة التي تحققت في الجولة الأخيرة من الحرب بين فلسطين والكيان الغاصب، استفزت وأثارت الكثير من المواقف والتصريحات والافعال والدراسات في كلا الجانبين وعلى الضفتين، المؤيدين للكيان وهم قلة فوق هذا الكوكب – على ما نعرف، وجمهور عريض من المؤيدين للقضية الفلسطينية وحقوق الشعب الفلسطيني فوق أرضه التاريخية في فلسطين!

وكندا، ومونتريال تحديدا لم تكن بعيدة عن هذا الانفعال والتفاعل مع الحدث الفلسطيني في أرقى وأسمى تجلياته، في الحرب التي لأهل الخبرة آراء فيها وأقوال، وللصهاينة عبرة ومراجعات كثيرة لرتق ما انفتق من القبة الحديدية وغيرها من منظومات الردع!

وفي الكسب المعنوي الكبير الذي تظهر بالشكل الإعلامي الذي بدا منحازا وملتصقا ومندكا في بعض الأحيان مع الرواية والسردية الفلسطينية للحدث!

مظاهر الدعم والتأييد والمتابعة اللصيقة للحدث الفلسطيني كانت كبيرة ومتنوعة ومختلفة هذه المرة، من حيث المقاربة ومن حيث اتساع جمهور المؤيدين والمعلنين والمطلقين صراحة مواقف التأييد في بيئات ومناطق فعل ووعي لطالما كانت بعيدة ومقفلة على الرواية الفلسطينية للأحداث..

قفي أمريكا، وداخل الحزب الديموقراطي الحاكم نفسه، ومقولة توماس فريدمان الصحفي الشهير في الواشنطن بوست خير مؤشر على ما نقول: إن بايدن قد يكون الرئيس الديموقراطي الأخير الداعم لدولة الكيان!

في هوليود حيث سيطر اللوبي والمال الصهيوني على هذه المنصة الإعلامية الفنية الثقافية المهيمنة والمسيطرة منذ بدء ومعرفة الانسان لصناعة السينما، كثيرون خرجوا سابقا على الرواية الصهيونية للجريمة في فلسطين مثل مارلون براندو وفانيسا ريد غريف وربما جين فوندا وميل جبسون وداستن هوفمان في مكان آخر، ودفعوا اثمان كبيرة لقاء مواقف ناقدة لممارسات دولة الاحتلال ودعما لحقوق الشعب الفلسطيني..

على المستوى السياسي والإعلامي والرياضي وغيرها من قطاعات شعبية واسعة انفتحت عقولها وقلوبها ومشاعرها على الوجع والألم والجرح الفلسطيني المفتوح على الموت والدم منذ عام 1936 وعلى المؤامرة وتضييع الحقوق منذ مؤتمر بازل بزعامة هرتزل تحضيرا لوعد بلفور الذي مهد لهذه الجريمة التاريخية المستمرة والمتواصلة منذ حوالي القرنين من الزمن، على مرأى من المؤسسات الدولية بكل أسمائها وعناوينها وشخصياتها التي شاركت في التعمية على هذه القضية، الى حربين عالميتين كانت فلسطين فيهما حاضرة بقوة على طاولة المقايضة والبيع، ثم انتقال هذه القضية الى أيدي العرب والمسلمين وجامعتهم العربية والإسلامية ولجان القدس والاقصى التي ساهمت بدورها في تضييع الأرض والحقوق والتنازل عنها رويدا رويدا وصولا الى ما سمي بصفقة القرن التي ساعدت على فرز وتظهير الداعمين حقا لفلسطين وحقوق الشعب الفلسطيني، ممن عمل وساهم وتآمر على الشعب الفلسطيني وحقوقه التاريخية في أرضه ووطنه وحقه الإنساني في العيش الحر الكريم!

خروج الشعب الفلسطيني في كتله الأربعة: في القدس وفلسطين 1948، في غزة، وفي الضفة.. وفي الشتات، جعل من توحد الشعب الفلسطيني خلف مقاومته، رغم الأصوات النشاز وخارج السياق والتاريخ والجغرافيا، رغم ذلك.. فإن الجولة الأخيرة اوجدت معادلات تربط القدس بغزة والضفة، وتجعل من غزة حاميا ومدافعا عن المقدسات وعن فلسطينيي 1948، وهذه معادلة جديدة ساهمت في توحيد الهم الفلسطيني، ومنعت الإعلام الخارجي من الاستثمار على الانقسام الفلسطيني خصوصا عبر شيطنة حركتي حماس والجهاد وربطهما بالإرهاب وفق الخطاب والسردية العربية – الخليجية للأحداث!

في كندا كما في أمريكا، حيث الجغرافيا واللغة والسياسة والتاريخ تقارب وتماهي بين شعبي البلدين ومؤسساتهم وشخصياتهم وناشطيهم السياسية والإعلامية، والثقافية، والفنية، والرياضية..

في كندا أيضا بدا واضحا حجم التحول في مقاربة وفهم واقع القضية الفلسطينية ومعاناة الشعب الفلسطيني، وكان ذلك على مستويات وعلى امتدادات شعبية متنوعة، على المستوى السياسي بدا بعض التردد والتأييد الحذر للممارسات الاسرائيلية، في بعض الأحزاب السياسية بدا النقاش عاليا وخرج الى العلن عبر انقسامات عامودية ومواقف متناقضة معلنة، شرائح ثقافية وفنية ورياضية واجتماعية ومهنية رفعت الصوت وبدت أكثر جرأة في التصويب نحو إسرائيل وانتقاد ممارستها الاجرامية كمقدمة لإدانتها في السياسة، والفكر، والقيمة، والإنسانية..

هذا الخروج على النمط والعادي في مقاربة الكنديين للجولة الأخيرة من الحرب والدفع بمواقف مؤيدة وداعمة للشعب الفلسطيني استدعت من اللوبي الصهيوني في كندا ممثلا بمؤسساتهم الناشطة، وعشية وقف اطلاق النار، والتحقق من النصر الفلسطيني المطلق والناجز في هذه الجولة على الكيان، استدعت تحركا على كل المستويات عبر الضغط على السياسيين في الحكومة وخارجها، والعمل على اخراج الملفات وممارسة سياسة العصا والجزرة بشكا مكشوف وفاضح، واستدراج البعض الى تصريحات مؤيدة للكيان لا تعكس الإرادة والمواقف الحقيقية لهذا البعض، على المستوى الإعلامي بدا واضحا محاولة سرقة هذا الانتصار والحد من تداعياته الجماهيرية عبر سياسات متعددة ومتنوعة، أقذرها وليس أقلها أو آخرها هي محاولة الضغط على الناشطين والداعمين للقضية الفلسطينية في جامعة McGill  عبر ما سمي باللائحة السوداء التي عممت على منابر ومنصات إعلامية لتشويه صورة هؤلاء الناشطين وصولا لتعرضهم للتهديد بالقتل وبالفضائح الجنسية والأخلاقية!..

كل هذه العهر والوسخ الذي لم ولن يفاجئنا صدورا عن مؤسسات صهيونية ناشطة على الساحة الكندية لطالما دافعت عن الاجرام الصهيوني في فلسطين ولبنان، كل ذلك لم يردع ولم يفت من عزيمة ناشطين على ساحة مونتريال من التداعي الى ندوة موضوعها الوحيد والاساسي هو كيف يمكن – بعد سكوت أصوات الرصاص والمدافع – دعم القضية الفلسطينية، القضية المركزية والأساسية المتبقية من آثار الصراعات الكبرى في الحرب العالميتين والحرب الباردة وصولا الى حروب الالهاء والتدمير في الشرق الأوسط، وتدمير الدول العربية والإسلامية بصدد خدمة الكيان الغاصب وتفكيك المجتمعات والدول من حوله، وصولا الى الايمان بسيطرته المطلقة على انسان وجغرافيا وثروات المنطقة!

ماذا بعد؟

سؤال ملح وممر اجباري لمعرفة وتحديد وتصويب وجودنا الإنساني في هذه الرحلة السريعة من العمر، في هذا البلد الذي قدم لنا كل التسهيلات الممكنة للعيش الحر الكريم، ولممارسة حقنا الإنساني والوجودي في الايمان، والأفكار، والمواقف، والمشاعر..

قضية فلسطين قضية أممية، خرجت عن أن تكون قضية فلسطينية، او عربية، او إسلامية، او غيرها.. هي قضية إنسانية بامتياز، قضية جاذبة وتشكل ميزان قيمة انسانية في الدعم والتأييد، أو سوية مرضية في تأييد ودعم المغتصب والقاتل والمجرم، وهي في ذلك مؤشر لمدى انتظام العدل البشري..

ونحن في كندا أولى من غيرنا في اغتنام هذه الفرصة انسجاما مع التقديمات والراحة النسبية والفضاء المفتوح على الحريات العامة وخصوصا السياسية منها..

لسنا في معرض عرض كافة الخدمات التي تقدمها لنا الحكومة الكندية وغيرها من المؤسسات الخدمية في البلد، مما يعفينا من كثير من مصاعب يوميات انساننا في العالم العربي والإسلامي وكده وسعيه لملاحقة الخدمات الضرورية من ماء وكهرباء، ومواصلات، وطبابة، وتعليم.. كل ذلك متاح وموجود وبأفضل المعايير العالمية جودة وخدمة وكلفة..

ما تبقى من وقت، وهو كثير، يجب الاستفادة منه في الوقوف مع القضايا الكبيرة، قضية بعمر قرنين من الزمان، قضية يسهم فيها التاريخ سلبا وإيجابا، تتصارع فيها الأديان اثباتا وقبولا وقداسة، ويختلط فيها السياسي مع الأيديولوجي، والعسكري والأمني مع الاقتصادي، والاجتماعي، والتربوي، والتراثي، والفولكلوري.. كل ذلك يجتمع في صراع مكتمل العناصر وقضية واحدة مكتملة الشروط، قد يجد فيها كل انسان فوق هذا الكوكب مساحة لاهتمامه واستنطاقا لإنسانيته وحسه البشري المرهف!

في مونتريال، بدأنا الخطوة الأولى على امل الاستمرار في تأكيد حضور هذه المدينة في وجدان فلسطين.. وفي مستقبل انتصارها الموعود!