هل كيبيك حقّاً في حالة طلاق مع الدين ؟!

  • article

 

سامر المجذوب – مونتريال

هناك اعتقاد عام سائد عن كيبيك انها في حالة طلاق مع الدين، وان ما يؤكد هذا القناعة هو مفهوم العلمانية التي تتبناها الطبقة السياسية بشكل خاص، منذ بداية ما عرف "بالثورة الهادئة révolution tranquille"، عقب انتخاب الحكومة المحلية الليبرالية بقيادة جان ليسانج في صيف 1960. و كانت قد شهدت كيبيك في الستينيات حركة تغيير جذرية على اصعدة مختلفة مجتمعية وسياسية واقتصادية، و منها كانت بداية انهاء سيطرة الكنيسة الكاثوليكية من مجالات التعليم و الصحة و تولى الحكومة المحلية زمام الامور في هذه النواحي.

 

كيبيك و المظاهر الدينية

في 24 من الشهر السادس من كل عام تحتفل كيبيك "بالعيد الوطني لكيبيك ". هذا اليوم يطلق عليه

 Fête du Saint Jean Batiste او عيد القديس يوحنّا المعمدان، و الذي حددت الكنيسة تاريخ ميلاده في 24 من حزيران (يونيو) .و المقصود هو النبي يحي ابن زكريا عليه السلام. بالرغم من البعد "القومي الفرنسي " للمناسبة الا انه لم يتم تبديل الاسم الرسمي لهذا اليوم بالرغم انه، اي الاسم ، يعكس الاصل الديني لهذه المناسبة الاكثر اهمية بالنسبة لكيبيك .

لا بد من الاشارة الى انه لا تخلو بلدات ومدن كيبيك من مئات الكنائس الكاثوليكية، التي تم احصاء اكثر من 2700 كنيسة منها عام 2003 ، اضافة الى مئات الكنائس الانجيلية و غيرها لطوائف مسيحية مختلفة  منتشرة في كل نواحي المقاطعة . مع ملاحظة ان الاف الشوارع ايضا تحمل اسم saint او القديس. حتى يومنا هذا بقيت اسماء هذه الشوراع و المدن على حالها ، كون هذه المناطق الحضرية تم بناؤها حول الكنائس التي كانت متواجدة .

و لا يخفى على احد ان الاعياد الرسمية الاساسية في كيبيك تقوم على اسس دينية من عيد الميلاد الى عيد الفصح الى راس السنة الميلادية و حتى ما يطلق عليه عيد الحب ، يحمل اسم القديس (سان) فلانتين. أضف الى ذلك  كيبيك تتميز بانتشار لرمز  له بعد ديني عميق الا هو الصليب . و ممكن ملاحظته في المسشفيات و المؤسسات التعليمية و غيرها و البلدات و القرى و منها حتى فترات قريبة في قاعات المجلس الوطني لكيبيك ( البرلمان). و قد تعرضت الحكومة لضغوطات كبيرة لكي تقوم بازالة هذه الرموز عقب تبني قانون 21 و الذي من المفترض انه يمنع ما يطلق عليه الرموز الدينية في بعض القطاعات الحكومية .

اثناء الفترة التوتر المجتمعي و السياسي العصيبة التي مرّت فيها كيبيك عام 2013 مع طرح حكومة حزب كيبيك بقيادة پولين ماروا انذاك مشروعا تحت عنوان عريض هو علمانية كيبيك ،حيث  تم طرح ما عرف "ميثاق  قيم كيبيك"  . في تلك الايام الحرجة و في بداية اكتوبر 2013 خرج  استطلاع CROP / La Presse يقيس رد فعل الجمهور على "ميثاق القيم" المقترح من حزب  كيبيك: يعتقد فيه  78 في المائة من سكان كيبيك أنه "من المهم الحفاظ على الرموز الكاثوليكية التاريخية" ، بينما يقول 56 في المائة "يجب أن يكون للديانة الكاثوليكية مكانة خاصة في كيبيك "و 62 في المائة يؤكدون أنهم" ينتمون "إلى دين.

في احصائية عام 2021، ثلاثة من خمسة كيبكيين عرفّوا انفسهم بالانتماء الى الديانة المسيحية و اكثر بقليل من خمسة في المئة على انهم من الديانة الاسلامية و واحد بالمئة من الديانة اليهودية  زيادة على بعض المعتقدات الاخرى بنسب متفاوتة اقل من واحد بالمئة. و يعطي هذا الاحصاء صورة واضحة عن رغبة اكثرية الكيبكيين و عدم ترددهم في اظهار انتمائهم  الديني عكس ما يشاع في هذا الصدد .

 

الصراع و عملية التغيير

مع ماذكر سابقا تأتي ضرورة توضيح هام ان التغيير المجتمعي و السياسي الجذري الذي شهدته اوروبا في عصر تمت تسميته  بالنهضة و في "الثورة الهادئة" التي شهدتها كيبيك في مطلع الستينات من القرن المنصرم انما كانت تقوم على حركة تغيير عارمة بوجه الطبقة الحاكمة انذاك وهي الكنيسة بالعموم و الكنيسة الكاثوليكية بشكلٍ خاص . طبقة السلطة بكل اشكالها السياسية و الاقتصادية و الاجتماعية كانت بيد ما هو متعارف عليه بالمفهوم الكهنوتي برجال الدين. و كان احتكار عام في كل نواحي الحياة الى درجة القناعة ان رضا الله و عفوه حسب المفهوم الكهنوتي نفسه لا بد ان يمر عبر توسط رجال الدين انفسهم ، الذين هم الحكّام او من بيدهم الكثير من مفاصل الحياة بنفس الوقت . بمعنى اخر حصل صراع مرير بين عموم الناس و الذي يطلق عليهم ب layman  من جهة و  الطبقة "المؤثرة بقوة باشكال الحكم كافة " المتمثلة ب clergy او رجال الدين و الذين هم الممثلين بالكنيسة. و كنت قد تطرقت الى هذا الموضوع باكثر تفصيل في مقالة نشرتها في صحيفة صدى المشرق الغرّاء في وقت سابق.

 في خضم "الصراع " الصامت اثناء الثورة الهادئة في كيبيك   لم تذكر الاحدات و لم تُنقل روايات تشير الى اي شكلٍ من الاشكال الاعتراض على الدين المسيحي لذاته وبعمومه او تعاليم النبي عيسى عليه السلام. و لم تتعرض الطقوس الدينية الى اي نوع من انواع المحاربة. و بقيت الكنائس كما هي بقدسيتها و محورية دورها في المدن و البلدات و القرى في انحاء كيبيك . و لم يسجّل على مفكري و منظري المفهوم العلماني اي تهجم على الدين المسيحي او تعاليمه انما هو صراع  بين فئات على شكل الحكم و تطبيقاته الثقافية والمجتمعية والسياسية.

 

مفهوم العلمانية و استخداماتها

خرج مفهوم العلمانية بتطبيقاته كنظرية فكرية فلسفية بديلة تقوم على اقصاء  للكنيسة عن مفاصل الحكم . وبذلك تم ابعاد رجال الدين، الطبقة الحاكمة السابقة ، من دائرة التنافس المحتملة المستقبلية. و من هنا لا يمكن ابعاد حقيقة النزاع السياسي من صورة الصدام الذي حصل بين طبقات المجتمع في تلك الفترة الزمنية

‎في الوقت التي تستخدم فيه العلمانية في بعض الاحيان  لخدمة اجندات سياسية متطرفة وإيديولوجيات شعبوية لاستهداف مجموعات انسانية من خلفيات ثقافية وعرقية ودينية متنوعة كان لا بد من العودة الى اصل هذا المفهوم

ففي العصر الحديث ، يتم تعريف العلمانية من خلال ثلاث ‎مبادئ أساسية ، والتي تم استخراجها من كتابات عالم الاجتماع الفرنسي ، جان بوبيرو. أولاً ، يجب فصل الدين والمؤسسات الدينية عن الدولة ومؤسسات الدولة. ثانياً ، للأفراد داخل المجتمع الحق في حرية الدين والفكر. أخيرًا ، يجب على الدولة أن تعامل جميع الأديان على قدم المساواة ودون تمييز.

 

الخلاصة : كيبيك و الدين

بداية لا بد من التنويه ان ماهية الالتزام الديني تختلف من عقيدة و أخرى. ومظاهر هذا الالتزام ايضا ليست متطابقة بطبيعة الحال . و هذا ينسحب على المجتمعات المتنوعة و التي تعرّف الدين وطبيعته و اتِّباعه بموازين مختلفة و هذا ليس بالامر بالغريب .

المظاهر  الدينية في كيبيك حاضرة بشكل واضح لا لبس فيه وتأتي الاحصائيات الواحدة تلو الاخرى لكي تثبت ان اكثرية الكيبكيين الذين ينحدرون من اصول فرنسية يعرّفون عن انفسهم بالمسيحيين . ناهيك عن عقائد اخرى . ناهيك عن تصاريح في مناسبات دينية و ممن هم على رأس الهرم القرار السياسي في كيبيك وممن يعتبرون انفسهم في ايامنا هذه الاكثر حرصا علي العلمانية يشيدون بالارث الكاثوليكي لكيبيك وهو ارث ديني، بطبيعة الحال . هذا بمجمله يؤكد ان الاعتقاد المتدوال به انه هناك حالة انسلاخ بين دين و كيبيك ليس دقيقا على الاطلاق و كل ماذكر من شواهد لخير دليل على عدم صحة هذه النظرية . وانما استهداف عقائد وعادات وتقاليد لفئات اخرى من المجتمع ليس ببعيد عن أهداف سياسية و ابعاد ايديولوجية و ايضا ممكن ان تكون شعبوية بامتياز .

*الصورة من صفحة Église Paroisse Sainte Rafqa Longueuil على القيسبك