منظومة البلدان الأكثر تقدماً الأفضل تعليما .. عرضة للأمراض النفسية والعصبية

  • article

د. علي حويلي

تتوافق  بعض الدراسات الصادرة  عن  منظومة الدول المتقدمة  كالولايات المتحدة الاميركية واليابان ومجموعة الاتحاد الاوربي في رؤيتها المشتركة  حيال ما تسميه  "  نظرة حول  التعليم" . ومفادها  ان شريحة كبيرة من  طلابها الموهوبين والمتفوقين في دراساتهم الجامعية، يعانون من ازمات  خلقية واجتماعية ومهنية  ونفسية ما يؤثر سلبا على مستقبلهم الاكاديمي  والمهني .
ومن المثير للدهشة ان تتقاطع تلك الدراسات العالمية مع  دراسة كندية جرت نهاية العام  الحالي  في اربع جامعات فرانكوفونية وانغلوفونية حول اصابة العديد من طلابها  المتفوقين ايضا بأعراض مماثلة ، بمعنى انه كيف يكون الطلاب في منظومة  تلك الدول المتقدمة والأفضل تعليما مصابين  في نفس الوقت  بحالات نفسية وتوترات عصبية  مقلقة؟.


معاناة 30 ألف طالب

وفي السياق  الكندي اجرت " المنظمة الكندية للجامعات والمنظمات الصحية "  مقابلات مع أكثر من 30 ألف طالب وطالبة في العديد من  الكليات والمعاهد والجامعات الكندية. ومما جاء فيها أن "هؤلاء الطلاب المتفوقين في علومهم،  واجهوا حالات من التوتر والقلق والإرهاق والعزلة وصولاً إلى التفكير بالانتحار جراء عجزهم عن مواجهة المسؤوليات والتحديات الأكاديمية والمهنية التي تعين عليهم إنجازها خلال عامهم الدراسي"وذكرت  أن ما يقارب  من90 في المئة منهم شعروا بالإرهاق، في حين أن أكثر من 50 في المئة وقعوا في حالة يأس شديد، وحوالى 63 في المئة أصيبوا بالإحباط بالاضافة الى 5و9 في المئة فكروا جديا بالانتحار ، اعترف منهم 1،3في المئة بأنهم اقدموا فعليا على المحاولة اكثر من مرة ".

 وتعلق الدكتورة سو تينغ تيو،مديرة إداة الصحة والرعاية الاجتماعية في جامعة" رايرسون"
في تورونتو بالقول:  " ينبغي ألا نقلل من شأن أي مشكلة صحية عقلية أو نفسية يتعرض لها طلابنا خاصة في الفترة التي يستعدون فيها للانتقال من سنة جامعية الى اخرى او  من نهاية الدراسة إلى سوق العمل"، محذرة من "مخاطر تراكم هذه العوارض المقلقة على مستقبل الشباب العلمي والمهني". وترى أن على المسؤولين ورجال الأعمال تنظيم لقاءات متواصلة مع ممثلي الطلاب والإصغاء إلى مشاكلهم الدراسية وغير الدراسية ، وإلى ما يدور في أذهانهم من رؤى وطموحات ،سيما "أن أكثر من 55 في المئة لديهم انحرافات خطيرة تصل أحياناً إلى حالات عصبية هيستيرية."

مشروع" كورسا"

برنامج تثقيفي  توعوي“"اون لاين " فرضته جائحة كورونا .ويهدف الى تقديم المساعدة  للطلاب الذين يعانون من التوتر النفسي والقلق والارهاق في عدد من الجامعات الكندية.ويعمل من خلال  استراتيجية موحدة يشارك فيها اساتذة  وطلاب مروا في تجارب مماثلة . في هذا الصدد يقول البروفسورسيمون غريغوار المسؤول عن هذا المشروع  انه " ينظم بين الحين والآخر ورش عمل يتم من خلالها تشخيص حالات الطلاب المصابين بشتى انواع التوترات النفسية ، وانه قد تم تشخيص اكثر من 6 في المئة من الطلاب ممن تتراوح اعمارهم بين 19 و29 سنة .وغيرهم ممن تشكل اصابتهم النفسية  مصدر قلق على حياتهم الشخصية  ودراستهم الاكاديمية . ويلفت غريغور الى ان التركيز  في معالجة هؤلاء الطلاب "يقتصر على مساعدتهم النفسية بدلا من الرعاية العلاجية ".وتحديدا على خلفياتها   وبواعثها الاجتماعية والاقتصادية والتعليمية والمالية وسواها.

 فالطلاب الكنديون يعانون من تفكك الأسرة، إذ ما أن يبلغ أحدهم سن الثامنة عشرة حتى ينفصل عن أهله أو هم يرغمونه أو يشجعونه على ذلك من منطلق أنه أصبح مسؤولاً عن تدبير شؤونه بنفسه من دون حاجة لمساعدة أحد. فعليه أن يتحمل أعباء السكن والمعيشة والدراسة وأن يوفر المال اللازم لتغطية تلك النفقات إما بالحصول على قرض مالي أو من عمل بدوام جزئي أو صيفي.
وعلى المستوى الأكاديمي يلجأ العديد من طلاب الجامعات والمعاهد المهنية إلى تغييراختصاصهم، إما لسوء اختيارهم لفرع لم يفلحوا به، أو لعجزهم عن التوفيق بين الدراسة والعمل، أو لأسباب أخرى قد تحول دون متابعة المقررات الجامعية والاكتفاء ببعضها ما ، يؤخر حصولهم على الإجازة الجامعية وضياع سنة أو أكثر من حياتهم الدراسية.
أما المشكلة الكبرى التي يواجهها معظم  الجامعيين فهي الخشية من وقوعهم  في شرك البطالة   التي تتراوح في أوساطهم بين 5 في المئة و12 في المئة علما ان البطالة تصيب نسبة كبيرة من الخريجين  الذين ينتمون الى ما يعرف ب " الاقليات المنظورة " ومنهم العرب الذين  تصل معدلات البطالة في صفوفهم الى18 في المئة  . ويرى هؤلاء أن إقدام الحكومة على تمديد فترة المتقاعدين بضع سنوات، حرم شريحة كبيرة من الخريجين من دخول سوق العمل وضخه بدم شبابي حار.
وتجنباً للوقوع في براثن البطالة يلجأ العديد من الطلاب إلى خيارات صعبة كالعمل في مهن متواضعة وذات أجور متدنية وفي مجالات لا تمت بصلة إلى علومهم أو السفر إلى الولايات المتحدة الأميركية أو إلى بعض الدول العربية لا سيما الخليج ما يجعل كندا تتحول شيئا فشيئا  من بلد مستورد للكفاءات إلى بلد طارد لحامليها.

واضافة الى ما يتعرض له الطلاب المتفوقون من مشكلات موضوعية ، ثمة مشكلات ذاتية اخرى  تتراكم في نفوسهم وتجعلهم عرضة للاضطرابات السلوكية  والنفسية التي تنطلق  من خصائصهم وسماتهم وتكويناتهم الاجتماعية والاسرية والتربوية  ، كالحساسية المفرطة و قوة المشاعر والعواطف ، والنزعة الكمالية  التي  تترجم في نزعة الاستعلاء والتفرد والتي تصل الى حدود التكبر والتعجرف والتعقيد والابتعاد عن الآخرين وعدم تقبلهم اية نصيحة او نقد يمس حياتهم الاكاديمية او المهنية وغير ذلك مما يندرج تحت مسمى " الاعاقة الاجتماعية "
تجدر الاشارة في هذا السياق الى معاناة  العديد من الطلاب العرب المشهود لهم بتفوقهم في رحاب الجامعات الغربية والتي يمكن اختصارها بمعاناة الغربة التي تشتمل على العديد من مظاهر العزلة والوحدة والقلق والخوف من الضياع والمستقبل وسواها من التوترات النفسية والعصبية .