مذكرات مواطن لبناني فقد ذاكرته!

  • article

طلال طه - مونتريال

 

أحب سيدة اغتصب الزمن أجمل ما فيها، لم يكن في حينها قد مات البيك، ولكن هكذا ننجيه ببدنه ليكون عبرة، اذ تحول الموت الى وجهة نظر بعد ان أصبحت مشاعر الحب منتهية الصلاحية، حط عصفور فوق سلاح تنوعت مصادره، لم يحمه من كورونا، إذ كان قد عب كل ما في هذا الجهاز من هواء سميك، استعان به على مد الذاكرة بما تيسر من حبر قان، ليسفحه على ما تبقى من بياض الأيام الأخيرة قبل أن يرحل مع العابرين!

لم يكن يخاف من الموت، لكنه يخاف ميتة تافهة لا يحسده الآخرون عليها، كان قد أوصى أولاده أن يدفنوا معه بعض الكتب، فالرحلة طويلة، وقد يضاء قبره بعمل صالح، فيستغل ما وسع من نور لقراءة مذكرات سياسي تافه ليقضي على ما بقي له من أمل بالجنة!

أحب الضيعة كثيرا، وتعلق بحفرها واشجارها وقططها الهزيلة، يدخل الضيعة من مدخلها الجنوبي بملابس الاحرام، يحط في دكان الحاج على كرسي فقير، يسمع نشرة أخبار ما تبقى من جيله على قيد الحياة، يدفع ما عليه من دين، ويستدين حاجته من الطعام لنهاية الأسبوع.. ويردد أن الضيعة دائما فكرة جميلة!

يعود الى المدينة مثقلا بالأشجار والأخبار البسيطة، يفرغ من ذاكرته الأفكار الخاطئة، وبالأخص الشاذ والرطب منها، التي تحتل مساحة واسعة في القرص الصلب في جمجمته!

يستعين على قضاء حوائجه بالإخوان، فيستدين منهم ما يسميه سيجارة تحليق منخفض، يداوي بها ذاكرته المثقوبة، فيحلق ليرى الدنيا من فوق، يمسح الشارع من نافذته فيرى نقاط الناس تتحرك بسرعة فيطمئن بانه قد اقترب موعد الإفطار!

لم تكن هذه مدينته الأولى، ولن تكون الأخيرة، فقد خسر مدينتين في حياته، ونهر وعدة جبال وإحدى جميلات العرب، كل ذلك كان قبل أن يفقد ذاكرته في انفجار المرفأ!

هو لم يكن هناك، لم يكن في المرفأ، ولم يكن قريبا منه، لم يكن في بيروت، ولا في الجبل المطل، كان بعيدا.. في القطب الشمالي، وسمع بالخبر بعد حدوثه بأسابيع، لكنه فقد ذاكرته في ذاك اليوم، الرابع من آب لذاك العام!

فكرة كتابة المذكرات كانت سابقة على انفجار المرفأ، هو رجل بسيط، عادي، من جمهور الناس، يهوى المطالعة وجمع الطوابع سابقا، وهو اليوم يهوى كتابة المذكرات وجمع الأفكار السخيفة في كتاب، كثير من المشاهير يجمعون أفكارهم التافهة في كتب، وتدر عليهم أموالا طائلة، فهو يريد أن يشارك في حملة التفاهة ويغذيها ببعض العناوين السطحية والشعارات المسطحة والأفكار البذيئة لمذكراته!

في أيامه الأخيرة كان يكثر من الاحلام التي تساعده على النوم، استفاق مبتسما وضاحكا في ذاك اليوم، وكتب في مذكراته قبل أن ينسى: خرجوا من الحفرة بعد منتصف الليل، وكان هواء فلسطين كعادته في أيلول، يوزع رطوبته على الطبيعة.. وناسها الجدد الذين انضموا اليها، كانوا أربعة!

كانت البسمات قد أخذت مطارحها من الوجوه، وراحت الأفكار تزاحم الأجساد في الحركة، أنصتوا الى الليل قليلا، تحسسوا خارطة المكان، تأكدوا من حواسهم واعضائهم، وكانت حاسة الفرح لا يشوبها قلق أو تردد!

كانوا أربعة وخامسهم الأمل، وكانت فلسطين تحيط بهم.. تحاصرهم، وتتنزل عباءتها عليهم في الليل، فتطل كوات نور بين الجبال، هناك فلسطين أيضا، تنام جزءا من الليل، تحرسها ادعية وصلوات لما تبدأ بعد.. ساعات قليلة هي المسافة قبل الوصول الى فلسطين يعرفونها.. قد تحاصرهم أيضا!

شكرا لكم على المتعة التي وفرتموها لنا خلال الأيام القليلة من حريتكم، عادوا لفلسطين التي يعرفونها جيدا في السجون، عادوا لحريتهم في الاقفاص والزنزانات، كان الآخرون في الخارج قد جنحوا للسلم، وكان الثعلب حين يجنحون للسلم يجنح للدجاج!

خرجوا من كهفهم ليجدوا آلهة كثيرة تعبد في المخيم، وأن العدو يرى بعيون عربية، فأصبحوا أهدافا سهلة، وصيادي الجوائز يرفعون آذان المساجد، ويصلون في الصف الأول، ويعبدون الها لا تعرفه فلسطين!

شكرا لكم أن شاركتمونا في مغامرتكم الجميلة، أيام قليلة، اعادت الذاكرة لهذا الانسان المعطوب، تسلح بالأمل على احتمالات فلسطين القوية، من الأرض تخرجون اليها.. ثم تعودون والتراب قد غطى ملامحكم، وتبتسمون أمام الكاميرات لتسجل نصركم الباقي، وتوزع سنابل الخير على الجوعى، وفرات الماء على العطشى، ونفحات الصحة على المرضى، وشذرات الأمل على المصلوبين فوق أخشاب الأنظمة والعسس والأجهزة!

يكتب مواطن مذكراته بحبر قان، منذ أن فقد ذاكرته وهو يوزع نكاته في كل الاتجاهات، يرقص على حبل رفيع من أحلام النساء، يحفر بيديه قبرا لفائض من الذكريات القميئة، يتقيأها في حفرته العميقة، يتسلى بملاحقة الكلاب الشاردة والقطط الكسولة، يحرص على أداء الصلاة في أوقاتها، ويتحدث عن القطار كأنه يراه، يتخيله مكتظا بالمسافرين المتجهين جنوبا، البحر عن يمينهم، والجبال الى يسارهم، وأحلام كثيرة تركض أمامهم.. ولا يلتقطونها!

جمهرة من النساء والرجال، والفلاحين واللصوص والطلاب.. والشرطة أيضا! لكل حكايته وروايته يتلوها على رفيق الطريق، حكايا كاذبة، وهذر كثير، لكل منهم أسراره الكثيرة التي لن يقولها، لن يبوح بها، وحده المواطن الذي فقد ذاكرته، يكتب مذكراته بصدق جارح!

كان يكتب مذكراته مثل صائد الفرص، هوايته وغوايته في نصب أفخاخ اللغة، وتجهيز العبارات بالعبوات، ويضع خلف كل كلمة أو جملة مفيدة حاجز طيار أو قناص، حيث إن الحفلات الكبيرة تبدأ بموجات فرح يعقبها إطلاق الرصاص في الهواء، فتقتل جملة مفيدة برصاص طائش!

.. ويعود المواطن الى كتابة مذكراته: كان وجهه أليفا، ملامحه واضحة، يرسم ابتسامة خجولة، لم تغادر شفتيه منذ ساعات، لم تعكر الرصاصات التي مزقت ثيابه ضياء عينيه، يبدو في هدوئه كمن هو خارج من صلاة، لا تزال أحلامنا الأخيرة مزروعة بين أنامله، وفي هدوئه الذي يطغى على المكان، يبدو كمن يستعد للخروج مجددا الى الحياة.. حياة واحدة لشهيد لا تكفي لكي نمحي هذا القدر من الخواء!

ترك المواطن صفحة مذكراته وخرج مسرعا يلاحق قطا شرسا اتهمه بأكل عصفوره المدلل، فوجأ القط بالتهمة، لم يترك له المواطن فرصة ليدافع عن نفسه، قفز من فوق الجدار، وقع في حضن المدام.. فتلعثم المواطن أمام شراسة الشرطة، أقسم أن القط هو الذي أكل البلبل الأصفر، ليكتب الشرطي في المحضر: مواطن!

هكذا!

مواطن.. وكفى، نقل بعدها الى مصحة في الجبل.. ليتابع كتابة مذاكراته البائسة!

قصص جادة وتافهة من مذكرات مواطن فقد ذاكرته ورجولته وأمواله.. ولم يبق له غير القلم وذاكرة معطوبة!