كورونا: في ذكراه السنوية الأولى!

  • article

طلال طه - مونتريال

يحتفل الكوكب الهرم في هذه الأيام بالذكرى السنوية الأولى لإطلاق وباء كورونا قبل نهايات العام الماضي، 2019، وبداية العام الحالي. انطلقت الجائحة من الصين الى إيران فأوروبا، فضربت عنيفا في إيطاليا واسبانيا، ثم عمّت اركان هذا الكوكب البائس في جهاته الأربعة، وعدلت في ذلك، فلم تستثن أحدا، بلحاظ العنصر او الدين او اللغة او العمر او الجنس او المستوى المالي والتعليمي والثقافي، وفي ذلك أيضا، لم ترحم الدول الغنية او الفقيرة او المتوسطة النمو على قول!

تصرفت الجائحة بالعدل مع بني البشر، وعممت قراراتها بالإقفال على كل جوانب المعمورة، ونشرت الرعب بالتساوي، كما انزلت سكينتها على آخرين، ثم جنحت بالمتطرفين في الجانبين، الذين أفرطوا في الخوف من كورونا، والذين أفرطوا في التغاضي عنها واهمالها وإدارة الظهر لها.. فكانت بحكمة تدير شؤون هذا الكوكب لكي يقف معاقبا على قدم ونصف، وجهه الى الحائط، يكتب مئة مرة: الكمامة، غسل اليدين، والتباعد مترين على الأقل!

كانت كورونا تضرب بقوة في مكان وترحم وتعفو في أمكنة أخرى، تخال عقل شيطاني يتحكم بها مرة، وصدفة قدرية تتنزل بها أخرى، مرة تأتي عقابا وأخرى تأتي عبرة، وما بين العقاب والعبرة خيط رفيع من فلسفة ورأي ورؤيا لهذا الكون، واعداد الذين يشعرون بالعقاب من البشر يشكل أضعافا مضاعفة من الذين يستفيدون من العبرة، بدليل الحصيلة النهائية لسنة على الاقفال التام لهذا الكوكب اليتيم الضعيف الفقير اليه تعالى!

يخرج بعض الناس الى الضوء بعملة قديمة، قال كم لبثتم، قالوا يوما او بعض يوم، قل هي سنة بأيامها كاملة وفصولها الأربعة، وحالات طقسها وسمائها وفضائها وما يلتهب في بطنها، تلفظهم من العالم السفلي كطقس عبادي جديد، يوحد بني البشر، فيتجهون الى قبلة واحدة: مختبرات الادوية!

تحولت استثمارات ضخمة في السنوات الأربعين الأخيرة من الصناعات التقليدية والحربية، الى التكنولوجيا وصناعة المعلومات الذكية، وها هي الآن تتحول الى مختبرات الادوية والعقاقير والميكروبات والأسلحة البيولوجية!

الانسان الغني والثري، وهم قلة يتربعون على عروش المال والعقارات وقد ملكوا ناصية الأرض، وتحكموا ببعض نظمها ونزواتها، واجهتهم الحقيقة الأبدية: إنك ميت وانهم ميتون!

لم يبق اذن سوي الاستثمار في الدواء، فكمية الثروات التي جمعت بمختلف الطرق المستقيمة والملتوية، تحتاج لأكثر من سبعين سنة متوسط عمر الانسان لإنفاقها والتمتع بشهواتها الممكنة والمحتملة والمفترضة، تحتاج الى عمرين او ثلاثة، أو ألف عام الا خمسين سنة كعمر نبينا نوح (ع)!

وازدهرت تجارة الميكروبات وحلقات الذكر في المختبرات، وتكريس الجوائز والميداليات للمتقدمين في هذا العلم، وفي الطرف المظلم من هذا الكوكب، يصرح شيخ تافه: ما لهذا خلقنا! (يقصد للعلوم الحديثة من طب وهندسة وكيمياء وفضاء وذكاء اصطناعي)، بل خلقنا للصلاة والصيام والعبادة!

ومن جهتنا أيضا، وعلى الطرف الآخر من الجائحة، يخرج الفقراء الى الضوء، يصطدمون ببعضهم البعض، بالجدران، بعربات الباعة، بأحلام مشوهة وممزقة في الطرقات وساحات الدبكة قديما، وحين تصطدم السيارات والبشر والاقدار، يقول الناس: الله لطف.. حديد بحديد!

الناس الذين خرجوا بتشوهات روحية وفكرية من هذه الجائحة بقيت أجسامهم سليمة، العطب أصاب الروح فقط: حديد بحديد!

كورونا يفرض ثقافة الغالب ونمط علائقه الاجتماعية، ويلزم الناس بها، الذي ذهب الى المستشفى، يذهب وحيدا، يترك وراءه أحلامه الكثيرة، وأملاكه ودفتر شيكاته وزاويته في المقهى وكرسيه المفضل امام التلفاز.. يترك كل شيء وراءه، ويذهب الى قدره، فتشتعل وسائط التواصل بالدعاء له لكي يعود سالما الى أهله وعائلته وأطفاله وما تبقى من أحلام هزيلة.. لن يعود معافى، سيعود من فوق جسر كاد يقوده الى الطرف الآخر من الحياة، لم يعبر، لم يوفق، استنقذته كميات الأدعية والصلوات التي وقفت حاجزا أمام عبوره الى الجانب الآخر، عاد الى بؤسه معافى، الأضرار قليلة: حديد بحديد!

تعرض الجسد لعملية جلد قاسية، التعذيب طال كل الأعضاء، حرم من كميات هواء مباحة كانت متاحة خارج الغرفة، ينام ويغمض عين واحدة، الأخرى مفتوحة على احتمالات العودة الى الناس والضوضاء، العين المغمضة لا تكفي لمتابعة حلم قديم، بالأبيض والأسود، لا يزال يحفر بالذاكرة ويزاحم أحلاما عصرية أكثر تقدما ومواءمة واستجابة لمتطلبات العصر!

في لحظة انخطاف وغيب سحب منه الهاتف، وسيلة الاتصال الوحيدة بعالم ملون في الخارج، عالمه الأبيض يضيق الخناق حول عنقه، ويصادر اوكسجين الغرفة ويمده له بأنابيب بخيلة!

لا تزال لديه أشياء كثيرة ليقولها، وقائمة بأحلام وامنيات قديمة لا تزال تزهر في ذاكرته ومخيلته، بعض الوعود والنذورات لم يف بها بعد، غادر سريعا الى المستشفى ولم يجر التعديلات النهائية على وصيته، وصية قديمة لم يلحظ فيها ما استجد على العائلة من ولادات ووفيات، وما تراكم حديثا من عقارات وأرقام في المصارف والسندات والخزانات، كل ذلك أصبح في ماض بعيد، يجهد لالتقاط نسمات من اوكسجين كان مباحا قبل عام!

يحاول تذكر الوجوه والاسماء، بعد ان حرم من وسيلة تواصله الأخيرة مع العالم الخارجي، الهاتف الذكي، يبدأ بعشيرته الاقربين، الزوجة والأولاد والاحفاد، الاقرباء والأصدقاء، ثم الدوائر الابعد، ثم يذهب بعيدا في المقاهي والشوارع والساحات العامة، حيث يتقاطع مسير ومصير الناس في الهواء الطلق، ينفض عن الذاكرة الغبار السميك ليعود ما امكن الى تاريخ ابعد، فتنضج في رئتيه نسمة من ذكريات زمن بعيد، وحين يتعب، يغمض عينيه على وعد بأن دعاء الفيسبوك سوف يعيده الى "سوق الاثنين" حيث يضيع في الزحام بين الناس والصراخ والبضاعة الرخيصة!

سواء كنا من جماعة المؤامرة او من الناس "الطبيعيين" فإن مآلات البشر لمرحلة ما بعد لقاح كورونا ليس كما قبلها بلا شك!

بعيدا عن التصنيفات القديمة والاحكام المسبقة، إن غابة من الارتياب تظلل مقدمات العام الجديد، فما بين صباح اليوم الأول من السنة الجديدة والعشرين منه، يوم رحيل ترامب، هناك احتمالات كثيرة، والتمارين العقلية التي تمارس في الأيام الأخيرة من هذه السنة لا تسمح بتفاؤل عريض، كل ما هنالك أن ترامب لن يفسد على سكان هذا الكوكب فرحتهم بميلاد نبي، وسوف يتابع وسخه وقيئه ونذالته بعد توزيع الهدايا عشية الميلاد!

قد نزعم أن انماطا من العلاقات والمشاعر والتحديات الفكرية والثقافية والمعيشية سوف تنبت في مجتمعاتنا الجديدة على اشكال مختلفة وبتمظهرات متعددة، وسوف تكون ردود فعل من تبقى من البشر فوق ظهر هذا الكوكب مختلفة وغير مسبوقة ولا يمكن تخمينها!

سوف تتجه البشرية، أو ما سيتبقى منها الى ديانات وثنية جديدة، وما يحدث في السعودية والامارات من عودة الى العصر الجاهلي بأسوأ مظاهره، أوثان فوق الكعبة، وأسواق دعارة ترفع راياتها، وعائلات وسلالات بشرية لم تنج من نظريات داروين بعد..

ان ذلك اللقاح الذي لا نعرف تأثيراته الجانبية بعد، فهي لن تكون أسوأ مما أصاب البشرية في سنتها الأخيرة خلف قضبان البيوت والآلام، واهلنا في ذلك الجزء من الكوكب سوف يرددون: الله لطف.. حديد بحديد!

العطب لن يصيب الجسد الخارج من درب الالام، بل سيصيب الروح التي لن تظهر عليها آثار التشويه سريعا!

نحن الخارجون من عام كورونا المرعب – إذا خرجنا سالمين، لن نميط اللثام عن الجراح العميقة في القلب والذاكرة، نترك لكم تقدير الخسائر وآثارها الجانبية على حياة كوكبنا المثقل بالجراح والندوب!